فى مطلع الألفية الحالية، كانت مصر قد جنت ثمارا أنبتها ريُ (الانفتاح) وتغذت على أسمدة (السلام)، فيما كانت صناعة السينما تتحرك بأبطالِ عصرها الشبابى الجديد، وصناع معايير صناعتهم متسقة مع واقع العصر، وانتخب (السبكي) من شخصيات فيلم (الناظر)، شخصية (اللمبي) ليكون عنواناً لإنتاج ربما يودع به صناعة السينما، لكن (اللمبي) استطاع أن يحصد إيرادات أهَلَّتهُ ليكون عنواناً للمرحلة ومثبتاً لأقدام (السبكي) فى عالم صناعة السينما!.
(اللمبي) ذلك النبت المُعَبر تماماً عن عوار بيئة النمو خلال عقود حياته التالية لمرحلة الانفتاح، والمجسِّد لتشوهات طالت الوعى المصرى بفعل غياب المشروع الجامع والقضية الجمعية عن ساحة البناء الوطني، وهو أيضاً الشخصية الساقطة من حسابات الجميع، إذ يتذكره متصدرو المشهد تأييداً ومعارضة فى فترة الانتخابات، ويُدير له مدعو الإصلاح من تنظيمات الدين السياسى ظهورهم، باعتباره (شخصية ذات أخلاق جاهلية)، كان باختصار (المهمش) الذى ساد فارضاً صوته وقِيَمَهُ على واقع صَنَعَه، وبات مادة للضحك المُرْ، تبلورت فى جزءٍ ثانٍ كان أكثر جرأة فى التعبير عن واقعه، حين سألته المذيعة لماذا أصبح (اللمبي)، فأجاب (واحد مصاحب على عَلُوكَّة وأشرف كُخَّة، عاوزاه يطلع إيه طيار؟)، ولم يتنبه أحد لسؤال المصير هذا، بل قرر من استثمر (اللمبي) تجاوزه إلى أصدقائه (عَلُوكَّه وأشرف كُخَّة)، وصارا أبطالا للعديد من الأعمال الفنية فى مراحل لاحقة، مراحل اتسقت تماماً مع لزوميات حالة الفوضى المستهدفة للوطن وجواره، وتماشت مع استهداف تمييع الشخصية المصرية بما يؤهلها للسير فى ركاب أى إرباك لمكونات الدولة.
وعودة إلى (اللمبي) المصرى نبت ما بعد الانفتاح، ورحلة بحثه عن أى سبب لرزق، والتى تقوده بدورها إلى عربة (سندوتشات الكبدة) التى ورثها عن والده، وفى مخزنها العتيق ينبعث صوت الوالد الراحل بوصايا الصناعة المؤهلة للنجاح، (حط بصل كتير وفلفل كتير وقَطَّعْ شِوية طماطم)، كانت الوصايا عنواناً لحالة تخدير جمعى لحاسة التذوُّق، إذ إن المستهدف هو إيهام كل جائع بأنه يأكل (كبدة)، بينما هو فى الأصل يتعاطى جرعة من البصل والتوابل تضم عينات أثرية لكبدة مجمدة الأصل، لكن فى كلٍ كان الجمهور المستهلك يتعاطى ما يعلم أنه فى الأصل (كبدة) أياً ما كان مصدرها. وعلى أعتاب الربيع العربى الذى استحال خريفاً لمشروع عالمى للفوضي، خلف (اللمبي) وأقرانه جيلاً جديداً تجاوز حالة إعادة إنتاج أغانى (أم كلثوم) بتوزيع جديد كما فعل (اللمبي) الأب فى أغنية (حب إيه)، ليبدأ فى إنتاج أغانيه الرافضة لأية معايير فنية قديمة والمعبرة عن حالة انخلاع عن كل أصول فن الآباء، والصادمة فى طرحها، والفجة فى بكائها على (الشبشب) الذى ضاع، كونه كان (بصباع)!، وكما توارى (اللمبي) عن المشهد توارت (عربة الكبدة)، وصار المستهدف هو سد الجوع عبر (أى حاجة فى رغيف)، ليلمع فى أفق صناعة الطعام المصرى صُنَّاع، لا تغرى أسماؤهم بأى قبول من نوعية (تلوث وساخة - هَوْهَوْ نتانة)، وتطغى على الذائقة الجمعية مسميات جديدة للسندوتشات منها (ديناميت قنبلة فياجرا الشبح لهاليبو)، وبالبحث والتحرى داخل محتوى الرغيف المعنون بالأسماء السابقة، لا يمكن الوصول لمحتوى محدد يمكن نِسْبَة السندوتش إليه، باستثناء البصل والتوابل!
بات الشعب طوابير تقف فى انتظار (أى حاجة فى رغيف)، وصار هذا المزيج هو الأصل فى الإنتاج لكل خطاب، والدليل لكل مُسَوِّق، والإعلان عن أى مُنْتَج، واستطاع كل رغيف أن يتسع ليشمل مزيجه الذى يغازل طلابه، واستبد كل طالب لرغيف بمطلبه، رافضاً أن يُدقق فى محتواه، وعاجزاً عن تحديد كنه لأى محتوي، وصار صُنَّاعْ هذا المزيج نجوماً، يفرضون بضاعتهم خطاباً دينياً أو سياسياً أو ثورياً أو ليبرالياً أو علمانياً أو وطنياً، وتحولت وسائل التواصل الاجتماعى إلى منافذ توزيع لمنتجات (أى حاجة فى رغيف)، وكل المطلوب هو مغازلة الجمهور حسب ميول الطابور، فهذا رغيف عنوانه (الشرعية)، وذاك رغيف يحمل اسم (الثورية)، وثالث اسمه (25 يناير) ورابع كنيته (30 يونيو)، وربما (إرهاب) أو (استقرار)، وهكذا تتنوع الأرغفة والمحتوى مجهول والبطون جوعها أعمى قدرتها على التمييز، وشل كل حاسة للذوق، واستبد بالذائقة لترفض كل أرغفة أخري، وتُعارض كل دعوة لتدبر فى المحتوي، طوابير تُساق مخدرة بعدما فقد الطهاة حرفتهم وغاب محترفوهم عن أوعية الطهي؟.
إن السير نحو استرداد وطن كان، يحتم التدبر فى مكونات المشهد، بما يضمن إعادة صياغة ذائقة استحالت شِبه ذائقة، خلفت أشباه متذوقين، يسيرون خلف كل منادٍ على (رغيف)، محشى بأى (حاجة)، وهؤلاء باختلاف أرغفتهم، تنمو أبدانهم منتجة (أشباه مواطنين) لا يكونون فى مجموعهم إلا (شِبْه وطن)، يسهل تقويض أركانه تحت وطأة مشاريع تغذى فرقتنا عبر مزيج (أى فوضى فى رغيف)!.