الأهرام
محمد شعير
ثرثرة فوق نيل «يناير»
أمِن الضرورى أن يكتب المرء فى يناير حول «ما جرى فى يناير»؟!. إذا كان تعبير «ما جري» يقلقك؛ ظنا أننى لا أعتبر مشهد 25 يناير 2011 «ثورة»، فأنت لم تقرأ لى من قبل حرفا واحدا. وإذا كان التعبير يُطربك، معتقدا أنه يتسق مع رؤيتك، واعتبارك المشهد بكامله «مؤامرة»، فاقرأ هذه السطور أولًا، ولا تستعجل أمرك. وفى كل الأحوال؛ سواء كنت من هذا الطريق أو ذاك، دعك منى تماما، وواصل انحيازك إن أردت، ولكن اقرأ فقط دستور بلادك. هل تعترف به؟!. هل يمكن أن نبنى عليه؟!.

فى مثل هذه الأيام كل عام، تضرب البلاد «نوّة يناير السياسية»، وليس من الحكمة أن تدعو إلى الحكمة تحت نير الأعاصير، لذا فلا تعتبر هذا مقال رأي، اعتبره ثرثرة؛ ثرثرة فوق النيل؛ النيل الذى سيظل يجري، رغم كل ما جري، وكل ما يجري، ثرثرة فوق نيل يناير 2011، ويناير 2018.

وفى هذه الأجواء الغائمة وسط «النوّة»، قد يحاول المرء إطلاق الإشارات لتنبيه السائرين؛ العابرين - كما هو مُفترض- نحو المستقبل، لا أولئك الذين تجرفهم «النوّة» فى مواسم الحنين؛ سواء كان الحنين إلى «25 يناير» أو ما قبلها!. لا أعرف لماذا يعتذر الكاتب عندما يستخدم - ويستحضر- تعبيرا أو اسم فيلم أو رواية لكاتب أو مفكر كبير. أمِن الضرورى أن أقول هنا: «مع الاعتذار للأستاذ نجيب محفوظ» لأننى استعنت باسم روايته؛ «ثرثرة فوق النيل»؟!. لن أعتذر، بل أقول: «مع الشكر للأستاذ نجيب محفوظ». أشكره لأنه ألهمنا، ويُلهمنا، وليته يكون مُلهما للجميع. لن أعتذر؛ فكثيرٌ من - وليس كل- أقوال وأفعال النخبة، مما يجرى اليوم فوق نيل يناير لا يعدو فى نظرى مجرد ثرثرة!.

إذا اخترتُ الآن تسميةً لفصيلٍ فى المجتمع، وقلت إن أبناءه أصبحوا يمثلون «فلول ثورة يناير»، تُرى هل سيغضبون مني؟!.

لماذا يغضبون؟!. ألم يبتكروا هم من قبل مسمى «الفلول» للسابقين؟!. ولكم من هم «فلول الثورة» فى نظري؟. إنهم أولئك الذين يوجهون بصرهم إلى النصف الصادق فقط من «ثورة 25 يناير». يرون بملء أعينهم تلك المطالب المشروعة الحقيقية؛ من «العيش» والحرية والعدالة الاجتماعية، لكنهم يصابون بالعمى المفاجئ، فلا يرون مشاهد الحرق والهدم والخراب، ولا يستمعون - برغم كونهم نخبة- إلى معلومات وتحليلات تؤكد «المؤامرة»، التى استهدفت إضعاف مصر، ومحاولة القوى الخارجية وقتها إسقاط النظام؛ الحليف القديم لهم، ليحل محله حليف جديد؛ «الإخوان»، وهو التنظيم الوحيد الموجود على الساحة آنذاك.

أبناء هذا الفصيل؛ «فلول الثورة»، لماذا لا يرون ما يراه غيرهم ولا يسمعون إلا حديث ذواتهم؟!. لأن «الثورة» عندهم نقيةٌ طاهرة، لا تشوبها شائبة. أهذا كلامٌ عاقلٌ أم مجرد ثرثرة؟!.

وفى المقابل؛ هناك أيضا فصيل آخر؛ أسمّيهم «الثوار ضد الثورة»، ممن حلّت عليهم هذا العام «نوّة يناير»، ليجرفهم الحنين إلى منظومة ما قبل 2011، فراحوا يكتبون ويتصرفون موجهين بصرهم إلى النصف المتآمر فقط من «أحداث 25 يناير» كما يسمونها. يرون بملء أعينهم تلك المشاهد المريرة الحقيقية؛ من الانفلات الأمنى واقتحام السجون واللجان الشعبية، لكنهم يصابون بالعمى المفاجئ، فلا يرون صور تنظيف ميدان التحرير وانصراف المتظاهرين بعد سقوط النظام، والتلاحم بين مختلف فئات الشعب فى الميدان؛ المسلم والمسيحي، الغنى والفقير، الكبير والصغير، ولا يستمعون - برغم كونهم نخبة- إلى معلومات وتحليلات تؤكد نفاد صبر المصريين، واضطرارهم إلى «الثورة» ضد الفساد والاستبداد، وتجميد حياة البلاد والعباد، وأنه ما كان يمكن لأى «مؤامرة» أن تنجح لولا استغلالها واقعًا مؤلمًا، جثم على صدور البشر طويلا، حتى أرهقهم فاختنقوا.

أبناء هذا الفصيل؛ «الثوار ضد الثورة»، لماذا لا يرون ما يراه غيرهم ولا يسمعون إلا حديث ذواتهم؟!. لأن «المؤامرة» عندهم مستقرةٌ كاملة، لا تشوبها شائبة. أهذا كلامٌ عاقلٌ أم مجرد ثرثرة؟!.

أخيرا.. فى مثل هذه الأيام منذ عام، ضربت البلاد كالعادة بالطبع «نوّة يناير السياسية». فكرتُ وقتها أن أكتب شيئًا، لكننى لم أفعل. أرهقنى الانقسام ومازال، وليس من الحكمة أن تدعو إلى الحكمة تحت نير الأعاصير.

أجريت فقط آنذاك حوارًا مع العالم الجليل أستاذ التاريخ الدكتور عاصم الدسوقي، نشر فى «الأهرام» يوم 24 يناير 2017. قال الأستاذ وقتها نصًّا إن «شعارات يناير عبّرت عن 99% من الشعب رغم أن ما جرى كان مؤامرة». هل فهمت شيئا؟!. أو هل يمكن أن تفهم؟!. أم أنك ستظل على انحيازك القديم؟!. فى هذه الأجواء الغائمة وسط «النوّة»، فى يناير 2018، ليس عندى ما أقوله سوى هذه الثرثرة، لعلها تكون - للجميع- ملهمة!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف