سعدت للغاية للخطوة التى قامت بها محطة «ماسبيرو إف إم» بإذاعة مسلسل «عرفة» عبر أثيرها. وهو واحد من نوادر المسلسلات الإذاعية التى كان بطلها عبدالله غيث وسميحة أيوب. المسلسل مأخوذ عن الحكاية الخامسة من حكايات رواية «أولاد حارتنا» للمبدع الراحل «نجيب محفوظ». وقد أثار وقت بثه أوائل السبعينات أزمة كبرى، اضطرت القائمين على الإعلام المصرى حينذاك إلى وقفه، بعد إذاعة ما لا يزيد على 10 حلقات منه. مثّل وقف المسلسل الخطوة التالية على مصادرة الرواية الشهيرة التى أبدعها نجيب محفوظ فى الستينات، حيث رأى المتشددون وقتها، أن شخوص الرواية يحملون دلالات على الذات الإلهية والأنبياء: آدم وموسى وعيسى ومحمد عليهم صلوات الله وسلامه. وكانت حكاية «عرفة» أكثر مواضع الرواية تفجراً. فشخصية «عرفة» ترمز إلى العلم الذى تمكن فى النهاية من هزيمة الدين: «الجبلاوى».
فكرة انتصار العلم على الدين من الأفكار التى كانت شائعة وقت كتابة «محفوظ» لروايته الأشهر، ويبدو أنه تأثر بها، وهى فكرة ثبت خطؤها فيما بعد، فما زالت الأديان تحرك الشعوب أكثر من العلم. لكن ليس بمقدور أحد أن يعبر على عبقرية نجيب محفوظ الذى تمكن من اختزال قصة الكون والصراع بين العدل والظلم والخير والشر فى حارة «الجبلاوى». كما لا يستطيع أحد أن ينسى تلك العبارة الشهيرة التى سكّها «محفوظ» فى روايته، عبارة «آفة حارتنا النسيان». وهى العبارة التى سارت مثلاً يستدعى فى المواقف التى يسعى فيها أى متحدث إلى وصف الذاكرة المثقوبة للمجموع. ورغم أن المعنى الذى تحمله ينطبق على الإنسان فى كل زمان ومكان، لكن يبدو أن «محفوظ» أراد أن يكشف من خلالها عن عورة متضخمة من عورات العقل المصرى.
مشكلة هذه الآفة أنها تحرم الإنسان من نعمة التعلم واستيعاب الدروس من الأحداث التى مر بها، لأنه ينسى!. الدنيا تتغير كل يوم، والعاقل من يتعلم من المواقف ويراعى تصحيح الخطأ الذى وقع فيه فى خطواته المقبلة. دعونا نضرب مثالاً على ذلك من المسلسل ذاته. فقد جُوبه بحملة ضارية -كما حكيت لك- عندما تم بثه أوائل السبعينات حتى أوقفت الإذاعة بث حلقاته. مرت عدة عقود على الحدث، وها هو المسلسل يذاع، بل وتجده متوافراً أيضاً على موقع «يوتيوب». الدرس الذى يجب أن نتعلمه أن لكل زمن سمات ولكل عصر «أدان»، لا يستطيع أحد فى يوم الناس هذا أن يمنع فكرة، أو يحجر على خيال كاتب، أو يصادر سطوراً أبدعها قلمه. فنوافذ العرض والتأثير أصبحت لا متناهية، وما يتم حجبه على نافذة، يتم بثه على أخرى. فهناك ملايين المواقع القادرة على بث الفكرة ونشرها، ومنع فكرة يغرى الناس أكثر وأكثر بالبحث والتفتيش عنها، أكثر مما هو لو تركت الأمور على طبيعتها. من حق الكاتب أن يبدع، ومن حق الناقد أن ينقد، ومن حق المتلقى أن يقبل أو يرفض. الزمان يختلف.. والأوقات تتغير.. والبشر يتباينون.. لكن المشكلة الكبرى فى هذه العبارة «المحفوظية» العبقرية: «آفة حارتنا النسيان».