جمال عبد الجواد
البنية التحتية للسياسة المصرية
عندما يصيب العطب نظامنا التعليمي، فيفشل فى إخراج متعلمين لديهم مهارات ومعارف تؤهلهم لحياة أفضل، فإننا نتطلع لوزير التعليم، متوقعين منه أن يخرج علينا ليشرح أسباب المشكلة، وخطة الوزارة لتجاوزها. عندما تتعطل الأفران عن العمل، ويحدث نقص فى الخبز، يخرج علينا وزير التموين يشرح الأسباب، ويعرض الخطط، ويعد بتجاوز الأزمة. عندما يتعطل الاقتصاد، ويكف عن إنتاج الوظائف للداخلين الجدد لسوق العمل، يخرج علينا وزراء التخطيط والاستثمار، لشرح الأسباب، وعرض الخطط، وتبشيرنا بمستقبل أفضل. تعطل نظامنا السياسي، وعجز عن إنتاج مرشحين رئاسيين قادرين على اجتياز سلسلة الفلاتر المتعددة التى تم تزويد النظام بها، فيما نحن نتطلع إلى مسئول يخرج علينا، يشرح الأسباب، ويقدم لنا خطة تعيد الحياة لماكينة السياسة فى بلادنا.
ماكينة السياسة فى بلادنا إما أنها تنتج مرشحين بعدد أقل من المطلوب، ومن نوعية غير مطابقة للمواصفات الضرورية لاجتياز اختبارات الجودة والصلاحية الرسمية وغير الرسمية. أو أن الفلاتر الموجودة فى مرحلة التصفية والترشيح أضيق من أن تسمح للمرشحين باجتيازها. والمطلوب هو ماكينة سياسية قادرة على إنتاج مرشحين أكثر، بجودة أعلى، وفلاتر فعالة فى استبعاد عديمى الأهلية، وفعالة فى الإبقاء على المرشحين المؤهلين.
المجتمع - أى مجتمع - يحتاج إلى جهاز سياسى بنفس قدر احتياجه إلى أجهزة اقتصادية وأمنية وثقافية وأخلاقية وترفيهية. للجهاز السياسى وظائف لا بد من القيام بها بكفاءة. الإخفاق فى أداء هذه الوظائف يؤدى إلى أزمات سياسية، وما الثورات والانقلابات والحروب الأهلية سوى تعبير عن أقصى درجات فشل الجهاز السياسي.
الجهاز السياسى جهاز أصيل، لا بديل له. قيام أجهزة الاقتصاد والأمن والثقافة والأخلاق بأدوارها لا يلغى الحاجة للجهاز السياسي. وظائف هذه الأجهزة تتقاطع مع وظيفة الجهاز السياسي، لكنها لا تلغيه أبدا. الاقتصاد والأمن والثقافة تؤثر فى السياسة، لكنها لا تلغيها أو تحل محلها.
الجهاز السياسى هو جهاز إنتاج السلطة والشرعية، وإذا تعطل الجهاز السياسى أنتج سلطة معطوبة، أو شرعية ناقصة، أو الاثنين معا. السلطة هى القدرة على فرض النظام والقانون، وتوفير الأمن، وخلق الموارد، وإعادة توزيعها وفقا لمصلحة أوسع قطاع من الناس. الشرعية هى القدرة على فعل كل ذلك بأقصى قدر من التعاون والرضا من جانب المحكومين، وباستخدام أقل قدر من العنف لتحقيق هذه الأهداف.
الجهاز السياسى هو قلب النظام السياسي، ولا يوجد نظام سياسى خال من النقص، والنقص يقاس بدرجات، ومن ثقلت موازينه واجه مشكلة. النظم السياسية تأتى فى أشكال وألوان متعددة، ومن الخطأ حصرها فى صورة السياسة الديمقراطية الليبرالية، لكن أيا كان شكل النظام السياسى فإنه يظل مطلوبا منه إنتاج السلطة والشرعية بالطريقة التى تناسبه. الحزب الشيوعى الواحد الحاكم فى الصين، ونظام الجمهورية الإسلامية فى إيران، ونظام الحزب المهيمن فى جنوب إفريقيا، والنظام البرلمانى الليبرالى فى الدانمارك، ونظام الجمهورية الفرنسية، هى نظم سياسية مختلفة جدا، لكنها جميعا تنتج السلطة والشرعية بأشكال وطرق تناسب مجتمعاتها، والمطلوب هو إيجاد الطريقة المناسبة لواقعنا الاجتماعى ولثقافة شعبنا.
تعريف حدود المجتمع السياسى هى الوظيفة الأولى للنظام السياسي. كل نظام سياسى يضع معايير يحدد وفقا لها الفئات المسموح لها بالمشاركة الكاملة فى إنتاج السلطة والشرعية، وتلك المحرومة من المشاركة فى هذه العملية. لم يكن العبيد أو النساء فى أثينا القديمة جزءا من المجتمع السياسى فى ديمقراطية أثينا. لم يكن السود جزءا من المجتمع السياسى الأمريكى حتى الستينيات من القرن العشرين. لم تكن النساء جزءا من المجتمع السياسى فى أغلب بلاد أوروبا حتى بعد الحرب العالمية الأولي. لم يكن الشيوعيون جزءا من المجتمع السياسى الأمريكى فى أى وقت. أخرج النازيون من المجتمع السياسى الألمانى بعد مآسى الحرب العالمية الثانية، بالضبط مثلما أن البعثيين مطرودون خارج حدود المجتمع السياسى العراقى منذ سقوط صدام حسين. الإخوان المسلمون ليسوا ضمن مجتمعنا السياسي، وكذلك الثوريون الفوضويون الساعون لهدم الدولة. هل هناك آخرون محرومون من العمل ضمن حدود مجتمعنا السياسي؟ هل أدرنا حوارا وخلقنا اتفاقا حول معايير الاستبعاد؟ هل يتمتع المقبولون ضمن حدود المجتمع السياسى بفرص وحقوق متساوية؟
النظام السياسى الفعال يقدم للناس ما يشبه كتيب الإرشادات ليدلهم على الطريقة الصحيحة لممارسة السياسة. إذا أردت أن تمارس السياسة فى الصين فعليك الانضمام للحزب الشيوعي، أما فى إيران فيمكنك الالتحاق بأى من الأحزاب القليلة المقبولة ضمن إطار المجتمع السياسي. عضوية واحد من الحزبين الكبيرين فى أمريكا، والترشح للمجالس المحلية الكثيرة هى الطرق التقليدية لممارسة السياسة فى الولايات المتحدة. ماذا يفعل الراغبون فى ممارسة السياسة فى بلادنا؟ الأحزاب لا تعمل، رغم كثرتها؛ وليس لدينا انتخابات محلية.
تتكون الماكينة السياسية الفعالة من عناصر وهياكل ظاهرة للناس بوضوح وشفافية، ومن أجهزة غاطسة غير ظاهرة تحرس البوابات وتحمى من المؤامرات وسوء الاستخدام. للظاهر والغاطس من أجزاء النظام السياسى دوره المميز الذى لا يمكن الاستغناء عنه، واختلاط الأدوار بينهما ليس علامة صحية.
السياسة سلعة نخبوية لا يستهلكها سوى عدد قليل من الناس، ولكن هناك عددا أكبر من الناس يشارك فى مشاهدتها. السياسة كالمسرح، فيها عدد قليل من الممثلين الذين يعرضون نصا متفقا عليه. فى المسرح توجد «الكمبوشة»، يجلس تحتها شخص مجهول يلقن الممثلين أدوارهم، وينقذهم عندما يتعثرون أو تخونهم الذاكرة. يحدث كل هذا أمام جمهور جاء لكى يتسلى، فيلقى الورود أو الكراسى على الممثلين والمخرج فى نهاية العرض. لا مسرح بدون جمهور. إسعاد الجمهور وتسليته، واجتذابه لحضور العرض التالى هو معيار نجاح المسرح. لو فقد الجمهور الاهتمام، وكف عن المشاهدة، لأغلق المسرح أبوابه. لدينا نص ركيك، وممثلون هواة، وجمهور فاسد الذوق؛ والمطلوب هو الارتقاء بالبنية التحتية للسياسة المصرية، وأتمنى لو أن شيئا من هذا يأتى ضمن البرنامج الانتخابى للرئيس السيسي.