الوطن
لميس جابر
«الوفد» الذى أهدر قبلة الحياة
قال لى فؤاد باشا سراج الدين، منذ خمسة وعشرين عاماً تقريباً، إن السادات قال عندما بدأ الوفد الجديد فى العودة للحياة السياسية: «إن الوفد سينتهى عندما يموت الوفديون القدامى». وكان فؤاد باشا رحمه الله يقص علىّ هذه المقولة ليؤكد لى عدم صدقها وأن الوفد عاد وسوف يبقى بمقرّاته المنتشرة فى ربوع مصر وبأعضائه الكثيرين من أقرباء الوفديين العظام ومن المنتمين للوفد، خاصة فى المحافظات، ومن جريدته التى كان يرأسها «مصطفى شردى» رحمه الله، وكانت أول جريدة معارضة فى مصر، وأقبل الناس عليها إقبالاً شديداً.. ولكن مات إبراهيم باشا فرج، ثم فؤاد باشا، وجاء الدكتور «نعمان جمعة» وكان ومعه «أباظة» من آخر روائح الوفد القديم. وفى عام 2005، وفى أول انتخابات رئاسية تحدث فى مصر منذ عام 1952، ترشح نعمان جمعة ومعه ثمانية آخرون مع مبارك، ولم يشارك غالبية المصريين، عدا الحزب الوطنى، لأنها تجربة جديدة جاءت بعد ثلاثة وخمسين عاماً لتجد جيلاً كاملاً يقع أغلبه فى مرحلة الكهولة والشيخوخة لم يمارسوا الانتخابات الرئاسية بعد سنوات من الاستفتاء الذى تولى به عبدالناصر ثم السادات ثم مبارك. وأذكر جيداً أننى حاولت أن أستخرج بطاقة انتخابية وذهبت لقسم شرطة الظاهر لأعطى صوتى للوفد الذى أحببته وآمنت بتجربته من قراءاتى بعد عمر طويل من العمى التاريخى الذى أصيب به جيلى والأجيال التى جاءت بعدى، ولكنى وجدت أن البطاقة الانتخابية لا بد أن تُستخرج فى نهاية كل عام، وفشلت فى المشاركة، وعدت إلى المنزل يائسة من التجربة، ولكنى قلت إن التجربة الأولى ما زالت تحتاج لسنوات حتى تنضج وتترسخ فى عقول الناس. ولكن كانت هذه التجربة فرصة لى ولغيرى للتعرف على الوفد ومرشحه بعد خمسين عاماً من الغياب والعزل والإقصاء، وعرفت «نعمان جمعة»، وذاع بين الناس أن هناك حزباً قديماً يُدعى الوفد عاد إلى الحياة، وجاء رئيسه ليشارك حتى وإن كان غير واثق نهائياً من الفوز، ولكن لا بد أن تكون هناك بداية، وكسب الوفد والوفديون دعاية، وأثبتوا أنهم موجودون فى مصر. ومرت السنوات وأصيب الوفد بانشقاقات وتخبط، وغاب عن الوفديين تاريخ الوفد وممارساته السياسية ومعاركه الشهيرة فى الحياة الديمقراطية فيما قبل 1952، وأصبح للأسف «الوفد الذى كان». وجاءت «يناير» وشارك الوفد، وجاء الإخوان، وتخبط الوفد حتى 30 يونيو. ومن أكثر الأشياء التى أكدت لى انتهاء العلاقة بين الوفد القديم والحالى هو موقف الوفديين من القضية المفتعلة التى سموها «تيران وصنافير» وفوجئت بالوفديين يقفون فى صفوف أدعياء البطولة ومدّعى المعارضة، وكانت صدمتى فيهم شديدة لأن من يعرف تاريخ الوفد يجد أن النحاس باشا فى حكومته الأخيرة عام 1950 هو الذى طلب من الملك فاروق أن يحادث الملك عبدالعزيز آل سعود ملك السعودية فى إمكانية وضع الجزيرتين تحت السيطرة المصرية حتى تتمكن مصر من غلق مضيق العقبة أمام إسرائيل التى استولت وقتها على «أم الرشراش» الأردنية قبل اتفاق الهدنة بين إسرائيل والأردن، وبدأت فى إنشاء ميناء إيلات الذى كان سوف يتحكم فى البحر الأحمر تماماً.. وأُعجبت، أيام أن قرات هذا، بالنحاس باشا إعجاباً شديداً.. هذا الرجل السياسى المدنى الذى كان يعرف أيامها معنى الأمن القومى المصرى والعربى جيداً. نعم، فوجئت بالوفديين الذين لا يعرفون عن تاريخ الوفد شيئاً، بل على العكس يقفون مع هؤلاء الذين يتهمون السيسى بأنه باع الأرض والعرض، وكانت صدمتى الأخيرة فى الهيئة العليا للوفد التى توحدت على إهدار الفرصة الأخيرة للوفد برفض الاشتراك فى الانتخابات الرئاسية. ومنذ أسبوع واحد، وعندما عرفت برغبة السيد البدوى فى الترشح، فرحت وقلت: ها هو الوفد قد عاد ليشارك كحزب معارض له اسمه وتاريخه فى الانتخابات الرئاسية، ومع هذه الخطوة سيعود الوفد ويعلن عن وجوده وتنتشر لافتاته الخضراء فى ربوع مصر ويظهر الوفديون ورئيسهم فى الإعلام ويعلنون للمصريين أنهم ما زالوا على قيد الحياة يشاركون بفكر الوفد الديمقراطى العريق الذى مارسه أسلافهم، وسوف يخرجون من التجربة بمكسب عظيم ودعاية أعظم، وربما انضم لهم كثير من الشباب الذى يتخبط بين أحزاب لا اسم لها ولا وجود.. لكنهم للأسف، ودون ذرة تفكير، أهدروا الفرصة الأخيرة وصاحوا بسذاجة أنهم لن يشاركوا فى تمثيلية، وكأنهم لا بد أن يضمنوا الفوز ليشاركوا، وكأنها لم تكن فرصة للوجود سوف تؤتى ثمارها مع الوقت. وكان لبيان تأييدهم للسيسى وقع غريب، بل مضحك، فها هو الحزب الوحيد المعارض الذى يحمل اسماً برّاقاً وتاريخاً رائعاً يتنحى عن المشهد ويفضل القيام بدور الحزب الوطنى، وبكل فخر للأسف الشديد. تأكد أن حزب الوفد بأعضائه وهيئته العليا -إلا أقل القليل- لا يعرفون عن معنى الوفد شيئاً ولا عن تاريخه ونضاله المرير من أجل الديمقراطية، وتأكدت مقولة السادات القديمة، ورفض الوفديون قبلة الحياة وتخيلوا، مثل مدّعى السياسة والوطنية، أن المشاركة فى الانتخابات تمثيلية هزلية وأنهم لا بد عندما يشاركون أن يضمنوا الفوز رغم أنهم، مثلنا جميعاً، لم يمارسوا الديمقراطية منذ ستين عاماً ويتخيلون مثل الباقين أن الديمقراطية تُكتسب بابتلاع كبسولة دواء عندما يتناولها الإنسان يتحول فى ظرف ست ساعات إلى ديمقراطى، ولم يستوعبوا أننا جميعاً نبدأ من أول السطر ونحتاج للممارسة لسنوات طويلة، ولم يستوعبوا أيضاً أنهم غائبون عن المشهد وعن السياسة وعن الممارسة الحزبية وعن الشارع المصرى، وأنهم أهدروا آخر فرصة لتقديم أنفسهم للساحة، وربما يدفعهم هذا الوجود إلى البحث عن الشارع المصرى من جديد.

لو أراد الوفد أن يعود من النسيان إلى الأرض مرة أخرى فلا بد أن يؤسس مركزاً للدروس الخصوصية فى تاريخ الوفد لأعضائه، وربما يؤدى هذا إلى عودة الوعى مرة أخرى.. بعد سنوات قد تطول.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف