الوطن
د. محمود خليل
غاندى
منذ أربعة أيام مرّت على البشرية الذكرى السبعون لوفاة الزعيم الهندى «المهاتما غاندى» (توفى فى 30 يناير 1948). عاش غاندى «مهاتما»، أى روحاً كبيراً وقلباً متّسعاً قادراً على التصالح مع الجميع. رحلة «غاندى» تشهد على أن تصالحه مع الجميع بدأ بنوع من التصالح مع الذات، حين علمها كيف تتحرّر من أثرتها وأنانيتها وتعصّبها، آمن بأنه إنسان، فانطلق يفتش عن هذا المعنى فيمن حوله، يبحث داخل الجميع، بما فى ذلك أعداؤه، عن تلك المساحة المشتركة التى تصل بين البشر، مساحة الألم والأمل، والشوق إلى العدل والحرية والكرامة، وإيثار السلام على الحرب، والطموح إلى حياة أفضل.

التصالح مع الذات جعل من «غاندى» صوتاً نادراً من أصوات الحقيقة فى تاريخ البشر، خصوصاً حين تساند مع التصالح مع الذات فى تركيبة شخصيته فكرة «الاستقامة». لم يكن «غاندى» يدعو أحداً إلى شىء لا يفعله. عندما طالب الهنود بالاعتماد على الذات كان أول هندى يغزل ثوبه بنفسه، ويأكل من الطعام أبسطه، ويعيش كما يعيش جميع الفقراء والبسطاء من أبناء شعبه. جانب من «استقامة» غاندى تمثّل فى رفضه البات فكرة العنف، كره العنف كما لم يكره شيئاً فى الحياة. وأمام تسلط الاستعمار الإنجليزى على بلاده، نادى «غاندى» بالمقاومة السلمية من خلال «العصيان المدنى». حكيماً كان الرجل، يعلم أن المستبد الذى لا يجيد سوى لغة العنف يُرحّب بأى عنف مقابل ويفرح به. المستبد يضغط ويضغط على الشعوب من أجل دفعها إلى الانفجار، هنالك يجد ضالته التى ينشدها، فهو دائماً ما يؤثر الفوضى على ما عداها، لأنها تمكنه من توظيف آلة قمعه فى سحق الجميع.

كانت «محبة الإنسان» مصدر قوة «غاندى» ومنبع إلهامه، أحب الجميع، بما فى ذلك قاتله. جزء من محبة قاتله كان يتحدّد فى عدم المواجهة العنيفة له، حتى لا يتيح له استخدام عنفه، ولم يكن فى ذلك أى نوع من السلبية -كما تصوّر البعض- فقد كان «غاندى» يرى أن من الكافى جداً أن تقاطع المستعمر المستبد، لتُعبّر له عن غضبك من أسلوبه وطريقته فى الإدارة. المقاطعة تحمل رسالة قد تفوق المواجهة فى خطورتها وأثرها. والتجربة تشهد أن «غاندى» تمكن من «تدويخ» الإنجليز بالطريقة التى سلكها فى المقاومة، وتعلمها منه الهنود الذين قاوموا معه، وكذلك البشر الذين تعلموا من تجربته.

نبذ «غاندى» التعصّب، أحب المسلمين كما يحب الهندوس، ونادى أبناء عقيدته وقوميته باحترام حقوق الأقلية المسلمة، حتى يسد باباً من الأبواب التى يمكن أن يدخل منها المستبد المستعمر إلى أى شعب من الشعوب، حين يلعب على وتر الصراعات الطائفية فى ما بينهم. كان يرى أن الله هو الحقيقة الكبرى فى هذا الوجود. الله الذى يؤمن به الجميع. السماء دائماً ما تجمع، والأرض تُفرّق. بذلك آمن الروح الكبير، لكن يد التعصب لم ترحمه فى النهاية، فاغتاله بعض المهاويس الهندوس الذين لم يرضوا عن دفاعه -وهو الهندوسى- عن وحدة الهند ومراعاة حقوق الأقلية المسلمة. مات «غاندى» لكن تجربته تظل شاهداً على إنسان بمعنى الكلمة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف