من لحظة الإعلان عن سفره إلى خارج الديار في أى مهمة رئاسية يبدأ مؤشر قلقى في الصعود، فأدّعى الانشغال، بل إننى أنشغل بالفعل في أى من مهام حياتى والتزاماتى، فإذا ما طرأ فجأة التوجس إياه كمس كهربائى يشرخ استسلامى رغم صلاتى ودعائى، أدخل برأسى بين صفحات كتاب، أو أحداث فيلم، أو رغى تليفون، أو خناقة عيال.. وربما أعطيت أذنى وكامل إصغائى لطنين شغالة تحكى بالتفصيل عن حماتها المفترية وزوجها الخيبان، متجنبة قدر ما أقدر الجرائد والشاشات والإذاعات، وإن كان توجهى السلبى لا يمنعنى من التلصص من بعيد عن أخبار نجاحات المسافر للبعيد كدفعة منشطة للاحتفاظ بقناع هدوئى، وضبط معدلات صواميل انضباطى، والتزام أعصابى بالسكون في خانة برودة الصقيع تجاه الكلمة الشاردة والتهمة الواردة والحقد الطافح والغلّ الناقع والترصد المسبق والنيات السيئات.. وأدخل وأخرج وأقلع وألبس وأنزل وأطلع وأدفع وأبلع وأشرب وتطلع شمس ويختفي قمر وينزل مطر وتهب الريح وينكسر الاريال وتعتم الشبورة ويطير الغسيل ويرن الجرس وأكلم الأجزاخانة وأرتب مواعيد أقراص الدواء.. إلا.. إلا الكتابة.. تلك التي لا أستطيعها، وأهاب الدخول فى محرابها خشية الجلوس موصدة الأوراق والقلم، فمطلوب لها وضع الانتباه ومسام الإدراك، بينما لست هنا بل معه هناك، وإن كان كل من معى هنا وكأنه ليس هنا.. وليلة إمبارح وأنا عاملة روحى ولا أنا هنا سألت ابنى على الماشى وكأنه من باب مجرد السؤال: هو الرئيس رجع من أديس أبابا؟!!.. جاء رده موجزًا: رجع.. ساعتها دخلت أنام..
الجلوس إليهم
كانت لأحاديث وحوارات الأستاذ محمد حسنين هيكل على شاشة التليفزيون وقعًا ومكانة وإطلالة ومعرفة وإضافة وانتظارًا.. كنا نتفرغ من أجلها.. نزيح مواعيدنا نقلصها نؤطرها نلغيها بعيدا عن موعد لقاءه.. النهاردة هيكل.. تعالى تشوفه عندى.. أحب أخلو مع روحى ومعه.. كانت تعليقاتنا فى الصباح منصبّة عما قاله بالأمس.. عن خبايا وأسرار أطلعنا عليها بأريحية.. كنا نعقد الاختبارات حول ما قصده وما شفّره، وكيف أن ما جرى في بلدنا وبلاد المسلمين كان له وقع هناك في آخر الأرض والعكس صحيح، وكيف أن عبارة جاءت عفو خاطر على لسان رئيس دولة تنمرت لها دولة كبرى فأوقفت إرسال قطع الغيار لأسلحتها.. كنا نزهو إذا ما طوى وسط الحديث ما جاء في لقاءاته بنهرو، وما قالت له أنديرا غاندى، وما أسرّ له فى صالون قصره الزعيم تيتو، وما أوتى على ذكره فى عشاء حميم جمعهما كنزيلين هو والملك حسين فى فندق جورج سانك بباريس.. كانت قناعتنا بنتائج تحليلاته تصل إلي حد اليقين لنضعها نصب أعيننا كمسار وطريق.. كان إذا ما طوى حقبة نطويها معه فالتواريخ كثر والحقب عقولنا ليست دفترا لها، وإذا ما أدان شخصية سرعان ما وضعنا يديها في الحديد، وإذا ما تجاهل واقعة فهى فى عرفنا وكأنها لم تقع، بل إنه لم يكن لها في الأصل وجود رغم دخانها الذى قد يكون من حولنا وفى ملابسنا يزكّم الأنوف، وإذا ما ساد هيكل في السرد وصال وجال وسافر في بحور الكـلام شرقا وغربا لتداعى الأماكن والشخوص والأحداث على شاشة مفكرة عقله الواعية الراصدة الحاضرة، فقد كنا نقبع في حقائب أسفاره منصتين مشدوهين موقنين بأنه لن يقودنا في متاهة بل لم يزل يمسك بأول الخيط ويعرف بيقين إلي أين امتداده وثنياته وميادينه ومنتزهاته، وسيعود بنا حتمًا للمحطة الرئيسية التي أقلع منها فى بداية رحلة الشرح والطرح الموسوعى الدقيق ذى الهوامش والملاحق، الذى يبرقشه ويخفف من وطأته بأبيات الشعر الذى يحفظ معلقاته عن ظهر قلب.. خسرنا هيكل.. قمة رحلت عنا وتركتنا طويلا نجادل بعضنا على أرض الطريق.. ولكن حمدًا للـه فقد كان هناك من تراكمت لديهم الخبرات والتجارب والرؤى والعلاقات والنظرة الحيادية والمقارنة والاستقراء والاستدلال والتحليل والتجرد فى الأحكام وترتيب العبارات وجاذبية الطرح وسهولة التوصيل.. و..حب مصر.. ومن هنا أصبحنا نجلس الآن لننصت إلى كوكبة صدارة الوعى.. الدكتور عبدالمنعم سعيد، والدكتور مصطفي الفقى، وكبير قوم الإعلام مكرم محمد أحمد، والخبير الاستراتيجى اللواء محمود زاهر، وخبيرة الاقتصاد الدكتورة بسنت فهمي عضو مجلس النواب ونجلة شقيق وزير الخارجية الأسبق إسماعيل فهمى.. و.. الدكتورة هدى زكريا أستاذ علم الاجتماع السياسى التى تم اختيارها كأول أستاذ للتدريس في الكلية الحربية.. ودمتم..
جسر العودة
فيروز صوت القدس زهرة المدائن التى هرَعَتْ إليها لاجئة فلسطينية تهدى إليها مزهرية، عندما وقفت تغنى على المسرح في الأردن عام 1963، فكانت الهدية محفزة لميلاد أشهر أغنيات القدس: «مريت بالشوارع.. شوارع القدس العتيقة.. قدام الدكاكين اللى بقيت من فلسطين.. حكينا سوى الخبرية وعطيونى مزهرية.. قالوا لى هيدى هدية من الناس الناطرين».. وانطلقت بعدها فيروز علي ألحان الرحبانية تهيب باستحقاق القضية: «عم صرخ بالشوارع.. شوارع القدس العتيقة.. خلّى الغنية تصير عواصف وهدير.. يا صوتى ضلّك طاير زوبع بها الضماير.. خبرهن ع اللى صاير بلكى بيوعى الضمير».. ويسلمها نائبا القدس في عام 68 إميل الغورى ومحيى الدين الحسين مفتاح مدينة القدس مع صينية من المشغولات الصدفية تمثل المسجد الأقصى من صنع نساء بيت لحم، فتغنى من تختزل المأساة فى رجع الحنين وإصرار العودة: «سنرجع يومًا إلى حينا.. مهما يمر الزمان وتنأى المسافات ما بيننا.. فيا قلب مهلا ولا ترتمى على درب عودتنا موهنا.. يعز علينا غدا أن تعود رفوف الطيور ونحن هنا.. هنالك عند التلال تلال تنام وتصحو على عهدنا».. وتبقى العودة مَغْناة وإصرارًا رغم الأحزان على حنجرة فيروز:
«يا جسر الأحزان أنا سميتك جسر العودة.. المأساة ارتفعت اتسعت وسعت صدعت بلغت حد الصَلْب.. العاثر ينهض.. النازح يرجع، والمنتظرون يعودون، وشريد الخيمة يرجع»..
ويذهب ترامب إلى إسرائيل، ويعود ترامب من إسرائيل بمهمة عزرائيل، ينذر بانتقال سفارة سام العم إلى القدس الشريف، ليظل صوت فيروز هادرًا يزكى غضب أصحاب الأرض وفلسطين التي لا تقبل بغير القدس عاصمة أبدية لها: «الغضب الساطع آت سأمر على الأحزان.. من كل طريق آت.. بجياد الرهبة آت.. وكوجه اللـه الغامر آت آت آت.. لن يقفل باب مدينتنا فأنا ذاهبة لأصلي.. سأدق على الأبواب وسأفتحها الأبواب.. وسيُهزم وجه القوة».. سيُهزم وجه القوة..
البابا.. أديبًا
قال لنا وهو ضيف عزيز علينا فى الأهرام فى الأسبوع الماضى.. البابا تواضروس الثانى.. إنه تعلم من صفحاتها الكثير، وأن جزءا من بنائه الفكرى كان من خلال صفحات الأهرام، وكان والده يطلب منه وهو لم يزل في المرحلة الإعدادية قراءة مقال بصراحة لمحمد حسنين هيكل، وكان متابعًا جيدًا لمقالات توفيق الحكيم ونجيب محفوظ والدكتور زكى نجيب محمود التى يقوم بدراستها بالذات وبعد استيعابها يقدم علي تلخيصها، ومن هواياته كان قص مربع كاريكاتير صلاح جاهين وجمع كل ثلاثين نكتة فى مجلد صغير للرجوع إليها في وقت الضيق.. «البابا» الذى شرح لنا أصل الاسم القادم من الصعيد عندما ينادى الطفل والده آبا لتتحول إلى بابا ثم البابا اللقب الذى استخدم للمرة الأولى في مصر لينتقل بعدها إلي روما.. البابا وجيه صبحى باقي سليمان خريج كلية الصيدلة جامعة الاسكندرية 1975 والحاصل علي زمالة منظمة الصحة العالمية WHO لدراسة مراقبة الجودة في تصنيع الدواء في مستشفى تشرشل اكسفورد بانجلترا 1985.. البابا الذى قام بتأيف 12 كتابا عن اللاهوت جلست إليه أديبًا في مؤلفه الهدية «وكل ما يصنعه ينجح» فلقينى بترحاب أسلوبه السلس العميق لأتوقف أمام شروح وعبارات حميمة يحق لصاحبها الجلوس على الكرسى البابوي المسيحى، ومقعد آخر فى قلوب المسلمين..
حول التطور فى تاريخ الكنيسة يقول إن العالم يتغير ويجب أن تتواكب عقولنا مع هذا المتغير، ومن أمثلة ذلك أن الكتاب المقدس كان قديما مخطوطا علي جلد أو على ورق البردى، وكان سمك السفر الواحد ضخم جدًا، أما الآن بعدما وجدت المطابع فهل يتوقف العقل علي وجوب القراءات من المخطوطات القديمة فقط؟ وفي بدايات الكنيسة المصرية، كنا نصلى باللغة القبطية بلهجاتها المتنوعة، وبعدما وجدت العربية، ومنذ عصر القديس ساويرس بن المقفع في القرن العاشر الميلادى أصبحنا نصلى في كنائسنا بالقبطية والعربية واليونانية، وعندما نوجد في الخارج نصلى باللغة المحلية للبلد سواء الانجليزية أو الألمانية أو السويدية أو الفرنسية، فالإصرار على لغة واحدة قد يفقد الكنيسة الكثير.. وقد سبق البابا كيرلس الرابع (1853 ــ 1862م) عصره وأحضر مطبعة كانت فى مثل تلك الأيام من دروب الخيال وأمر باستقبالها بالتراتيل والألحان فاعترض البعض علي أن هذا الاستقبال يليق بالأب الأسقف فقط وليس بمطبعة من الحديد، وفي زمنه أيضا قام بافتتاح مدرسة خاصة لتعليم البنات كانت الأولى فى مصر.. وإذا ما كانت الكنائس وبعض الأديرة تضاء بالشموع فإنها مع الاتساع وحرارة الجو ووجود المصانع التى تخرج ثانى أكسيد الكربون كان لابد لها من استخدام الكهرباء فهل يأتى شخص الآن ليقول لا يجب وضع أجهزة التكييف فى الكنائس لأنه لم يأت ذلك فى الانجيل!
ويشرح البابا على صفحاته صفات العقل المنفتح فى أن يكون عمليًا يراعى تغير الزمان وأدواته، وهو عقل محاور يتناقش، فلا يصلح الآن في تربية أولادنا أن نعطى الأوامر، بل يجب من الحوار والمناقشة ليتم تبادل الأفكار وتفاعل الخبرات، وتنمية التفكير، وتوليد أفكار جديدة والتخلص من الأفكار الخاطئة للوصول إلى الحقيقة.. والعقل المنفتح مهموم بإصلاح مجتمعه للأفضل، وهو عقل واقعى لا يتكلم بالنظريات فقط، إلى جانب أنه عقل مبدع يبتكر دائما ، ويفكر فيما هو الأفضل، ومن سماته القدرة على الصبر وحب الاستطلاع، والإتصاف بالدعابة وخفّة الظل والمرح، وتقبل وجهات نظر الآخرين، والميل إلي تحدى المواقف المختلفة، والقدرة على توليد الأفكار.. ويسوق الكاتب الجالس علي الكرسى البابوى قصة قصيرة للدلالة على العقل المنفتح آتية من رهبنة شرق آسيا (الرهبنة البوذية)، المختلفة تماما عن الرهبنة المسيحية، فهم يرتدون الزى الأصفر، ويقومون بحلق رءوسهم تمامًا، ومن قوانينهم أنهم لا يلمسون امرأة ولا حتى بالسلام.. وتقول القصة: إنه فى إحدى المرات كان يسير شيخ مع تلميذه الشاب، وفي الطريق وجدا فتاة صغيرة في حوالى الثانية عشرة من عمرها تريد عبورمستنقع، حيث تكثر المستنقعات هناك، ولكنها كانت خائفة، فقام الشيخ بحملها علي ذراعيه، وعبر بها الماء وتلميذه فى ذهول، كيف يكسر قوانين الرهبنة، لكنه خجل من سؤاله، وفى نهاية اليوم تعب التلميذ من التفكير، وقرر أن يسأل معلمه قائلا: أليس من تعاليمنا ألاّ نلمس امرأة، فكيف حملت هذه الفتاة؟! أليس في هذا كسر للقانون؟! فأجابه الشيخ إجابة جميلة جدًا قائلا أنا قد حملتها خمس دقائق فقط ثم تركتها، أما أنت فقد حملتها فى فكرك حتى الآن!
أما عن طرق بناء العقل المنفتح فالبداية لدى البابا بالقراءة والمعرفة، ثم بتوعية العقل وضبطه بالحِكمة والتلمذة، وعن الحِكمة يقول سليمان الحكيم «الحكيم عيناه فى رأسه، أما الجاهل فيسلك فى الظلام» وحول العقل الضيق يسوق بطريرك الاسكندرية والكرازة المرقسية القصة القصيرة التالية: «(هو) تزوج بـ(هى) وبعد سنين قليلة طلب (هو) من (هى) أن تعمل له سمك مقلى، وبالفعل أحضرت السمك ثم قامت بتقطيع السمكة من الذيل والرأس، وتركت الجزء الذى فى الوسط فقط، فسألها (هو): لماذا قمت بتقطيع السمك هكذا؟! أجابت: ماما كانت تفعل هذا، فسأل الأم لماذا كنتِ تفعلين ذلك فى السمك؟! فقالت: أمي كانت تفعل هذا، فسأل الجدة لماذا كنتِ تفعلين هذا؟! قالت لأن جدك كان قد أحضر لنا صينية صغيرة لا تسع السمكة فكنت أقوم بتقطيعها هكذا»!
وفى فضائل القلب المتسع المملوء بالمحبة الصادقة يسوق لنا الكاتب العديد من قصص العهد القديم والجديد ليشرح بعدها سمات القلب المتسع بأنه يتسع أولا للتنوع، فالبشر ليسوا متشابهين وليسوا لونا واحدا أو شكـلا واحدا أو لغة واحدة، ووجوب اتساع القلب لضعف الآخر «فالقلب المتسع يا إخوتى يسامح.. ويصفح.. وأيضا ينسى»، ويتسع القلب للمستقبل مثل الابن الضال الذى عندما أراد أبوه أن يتحدث معه لم يتكلم معه عن الماضي السىء، ولكنه كلمه عن المستقبل فقال: «ابنى هذا كان ميتا فعاش، وكان ضالا فوحّد»، فلنغلق الماضي ونبدأ صفحة جديدة.. وفي اتساع القلب ترحيب للفكر الجديد، والقلب الضيق لا يعيش زمانه، ولا يعيش حياته، فالزمن يجرى وهو يعيش في عالم آخر.. والقلب المتسع يحتاجه كل من يرشد ويقدم المشورة.. يحتاجه قادة الفكر، والثقافة والاستنارة والتنوير، وهو القلب المتسع لكل تائب، فباب التوبة مفتوح للجميع.. وفى مواجهة مواقف الحياة ومشكـلاتها تحتاج أيها الحبيب إلى الفكر المنفتح، وإلي اليد المفتوحة بمعنى العطاء، فالبخيل له القلب الضيق، ولأن القلب يحرك اليد، فاليد المنبسطة تعبر عن قلب فياض بالحب.. وحول قيمة التواضع الذى ليس معناه أنك أقل من الآخرين، وإنما هو التحرر الكامل من التفكير فى الذات، وصاحب الروح المتواضعة متسامح، لا ينشغل بنفسه، ويشكر دائما ولا يتذمر على كل شيء بل يشكر في كل شيء، ويعرف مسئولياته وحدوده، ودائما يكرر لسانه الحمد والشكر وكلمة «آسف» أو «أخطأت» لا تقلل من كرامتك، وأهم درس للإنسان هو الذى يخدم بشكل عام وليس خدمة الكنيسة فقط، فالسيد المسيح انحنى وغسل أرجل تلامذته.. والمتضع «المتواضع» يعيش أبدًا تلميذًا ودائمًا يتعلم.. ويسرد البابا تواضروس في خاتمة كتابه الأخلاقى الشفيف حِكمة التلمذة فى قالب قصة قصيرة تحكى عن شخص له معرفة كبيرة بالكتب، وكان يمتلك منها الكثير، وفي إحدى المرات كان يعبر للناحية الأخرى من النهر، ومعه بعض كتبه، فأمسك بكتاب كبير، وسأل المراكبى: هل تعرف هذا الكتاب؟! فأجاب لا، فقال له لقد فاتك ربع عمرك! وبعد دقائق أمسك بكتاب آخر وسأل المراكبى ثانية: هل تعرف هذا الكتاب، إنه أعظم كتاب.. هل قرأته؟ فأجاب لا، فقال له لقد فاتك ربع عمرك الثانى! ثم قامت عاصفة شديدة، وبدأت المياه تدخل إلى المركب فسأل المراكبى هذا الشخص: هل تعرف السباحة؟ فقال لا: فقال له لقد ذهب عمرك كله!
ونصيحة البابا: عَلِّم نفسك أن تتعلم من كل أحد مهما يكن كبيرا أو صغيرًا، عَلِّم نفسك دائمًا أن تلتقط أية معلومة أو تصرف جيد، فالإنسان فى حاجة دائمًا لأن يكون تلميذًا.. ومتواضعًا..
مى زيادة في ثوب جديد
بعض الشخصيات تظل دومًا فى بؤرة الاهتمام وشوق الأقلام التي تتناول دقائق حياتهم من بعد رحيلهم لترتفع المؤلفات عنهم فوق أرفف المكتبات بجميع لغات الأرض مثل نابليون بونابرت الذى تصدر عنه دورية فرنسية نصف سنوية منذ رحيله حتى الآن بمانشيتات جديدة ونظريات مبتكرة، مثله مثل الرسام السيريالي سلفادور دالي والنجمة المنتحرة مارلين مونرو، وفقيد الشباب جيمس دين، وبطلة المأساة الأميرة ديانا..الخ.. علي الجانب الآخر لدينا فى الشرق الأديبة مى زيادة التي شغلت عصرها بصالونها الأدبى الناجح المنعقد كل ثلاثاء علي مدى عشرين عامًا عندما كان يتلهف علي غشيانه الكهول قبل الشباب بينما تفشل في ذلك المؤسسات الثقافية المتمرسة، الصالون الذى قال عنه الشاعر إسماعيل صبرى:إن لم أمتع بمىّ ناظرى غدًا.. أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء
مى التى رحلت منذ 76 عامًا وكانت توقع كتاباتها باسم «إيزيس كوبيا» أحدث ما كتب عنها رواية باسم (مى ليالى إيزيس كوبيا) للكاتب اللبنانى «واسينى الأعرج» الصادرة هذا الشهر عن دار الآداب وتحوى تفاصيل مأساتها من ربيع 1936 إلى خريف 1941، حيث تطرح معاناتها من ظلم الجميع لتمكث فى العصفورية علي مدى ثلاثمائة ليلة وليلة ليتخلى عنها كل من كان يومًا يطلب ودها مثل العقاد والرافعى ومنصور فهمى وأحمد لطفى السيد وأنطون الجميل والزيات وطه حسين والحكيم وسلامة موسى وأحمد شوقي وداوود بركات وزكى مبارك وأمين الريحانى..
مى المعروفة بإتقانها لأكثر من خمس لغات كما ذكر العقاد، وقال سلامة موسى بأنها لغات تسع، إلا أنها كانت تحافظ على لسانها العربى ولا تتكلم أو تكتب بغير العربية، مع أنها كتبت أولى دواوين شعرها «أزاهير حلم» بالفرنسية، وكتبت روايتها «ظلال على الصخرة» بالانجليزية، وكانت ترى في العامية خطرًا يهدد الفصحى فلم تأذن لها بالدخول لحرم الفصحى المقدس.. الآنسة مى التي حسبت اليونانية واللاتينية في مصاف اللغات الميتة بينما ترى العربية قد حفظت حية علي مدى سبعة قرون «إن الذى حافظ عليها حية هو القرآن، لهذا ستظل العربية حية مادام الإسلام حيًا ومادام في أنحاء المسكونة (الدنيا) ثلاثمائة مليون من البشر ــ وقتها ــ يضعون يدهم علي القرآن حين يقسمون»..
مى التى رسمت ملامحها لصديقتها: «استحضرى فتاة خمرية كالتمر الهندى كما يقول الشعراء، أو كالمسك كما يقول قيس متيم العامرية، وضيفى إليها طابعًا سرمديًا من وجد وشوق وذهول وجوع فكر لا يكتفى، وعطش روحى لا يرتوى، يرافق أولئك جميعا استعداد كبير للطرب، واستعداد أكبر للألم، وأطلقى على هذا المجموع اسم مي»... ووصفها سلامة موسى فكتب: «مستديرة الوجه، زجاء الحاجبين، طفاء الأهداب، دعجاء العينين يتألق الذكاء فى بريقهما، ويجلل وجهها الجميل شعر أفحم، وتلعب أبدًا على شفتيها ابتسامة الخفر».. مى التى عشقت الموسيقى فأجادت العزف على البيانو والأرغن، وأحبت الرقص والغناء فشدت لأم كلثوم، وأجادت الفروسية فصالت وجالت في ربوع جبال لبنان من فوق ظهر الحصان.. وفى وصف صالونها التاريخى قال طه حسين: «كان الذين يختلفون إلى هذا الصالون متفاوتين تفاوتًا شديدًا، فمنهم المصريون والسوريون والأوروبيون علي اختلاف شعوبهم ولغاتهم، وربما استمعوا لقصيدة تنشد أو مقالة تقرأ أو قطعة موسيقية تعزف أو أغنية تنفذ إلى القلوب.. وقد أتيح لى أن أكون من خاصة مى بفضل الأستاذ لطفى السيد، فكنت أتأخر في الصالون حتى ينصرف الزائرون، وفى ذلك الوقت كانت مى تفرغ لنا فنسمع من حديثها ومن إنشائها ومن عزفها ومن غنائها، ويظهر لى أنى لن أنسى صوت مى تغنينا أغنية لبنانية مشهورة «يا حنينة» وتحلق بنا بأغانى أخرى باللغات المختلفة وباللـهجات العربية المختلفة أيضًا»..
وعندما تذكر مى زيادة يعقبها علي الفور جبران خليل جبران.. حبًا تخطى حدود الزمان والمكان والحواس.. عشرون عامًا قال فيها جبران ما يهد مقاومة أعتى صلابة لأنثى، والسبب فيما جعله حبًا رومانسيًا يكمن في سبعة آلاف ميل كانت تفصل بينهما.. يكتب إليها بتهويمات شاعر يذيب الحجر الصوان: «كيف حالك؟ وكيف حال عينيك؟ وهل تمشين ذهابا وإيابا فى غرفتك بالقاهرة بعد منتصف الليل كما أمشي هنا في نيويورك؟ وهل تقفين بجانب نافذتك بين الآونة والأخرى وتنظرين إلى النجوم؟ وهل تلجئين بعدها إلى فراشك لتجففى ابتسامات ذائبة في عينيك بطرف غطائك؟ أفكر فيك يا مى، والغريب أننى ما فكرت فيك إلا وقلت في سرى: تعالى.. تعالى واسكبى جميع همومك هنا.. هنا علي صدرى.. وها أنا أضع قبلة في راحة يمينك، وقبلة ثانية فى راحة شمالك».. «كيف حال عينيك.. أنت تعلمين بقلبك أن حال عينيك يهمني إلى درجة قصوى.. وكيف تسألين هذا السؤال وأنت تشاهدين بعينيك ما وراء الحجاب.. لقد سألت عن عينيك لأننى كثير الاهتمام بعينيك، لأننى أحب نورهما، وأحب النظرات البعيدة فيهما، وأحب خيالات الأحلام المتموجة حولهما.. ولكن اهتمامى بعينيك لا يدل علي أننى قليل الاهتمام بجبهتك وأصابعك.. اللـه يباركك ويبارك عينيك وجبهتك وأصابعك»..
وزيادة في جرعة اللاأرضية في المسألة المحلقة الرومانسية يكتب لها جبران عن الضباب لتظل المسكينة أسيرة الضباب: «أنا ضباب يا مى.. أنا ضباب يغمر الأشياء ولكنه لا يتحد وإياها. أنا ضباب لم ينعقد قطرات، أنا ضباب وفي الضباب وحدتى، وفيه وحشتي وانفرادى وفيه جوعي وعطشى، ومصيبتى أن هذا الضباب وهو حقيقتى يشوق إلى الضباب الآخر فى الفضاء. يشوق إلى سماع قائل يقول له: لست وحدك. نحن اثنان. تعالى نهيم معًا إلى الجبال وفي الأودية.. تعالى نسير بين الأشجار وفوقها.. تعالى نغمز الصخور المتعالية.. تعالى ندخل معًا إلى قلوب المخلوقات وخلاياها. تعالى نطوف فى تلك الأماكن البعيدة المنيعة.. قولى يا مى».
ومما لاشك فيه أن مى كانت فى انتظار قدوم رسول الضباب خاصة وقد أعرب جبران عن رغبته فى السفرإلى القاهرة فى رسائله عدة مرات، ولكنه لم يبرح مكانه، ويوم طال انتظارها وقد تجاوزت الخامسة والثلاثين لملمت شجاعتها لتكتب علي استحياء: «أعرف أنك محبوبى ولو كنت حاضرًا بالجسد لهربت خجلا منك ولاختفيت زمنا طويلا فما أدعك ترانى إلا بعد أن تنسى»..
مى تهرب من الاعتراف بينما جبران الضباب واقعًا لشوشته فى غرام بمارى هاكسل التي ترفض طلبه بالزواج منها، وكانت إلى جواره دائمًا ميشيلن المعلمة الفرنسية الحسناء.. و..يموت جبران عام 1931 ويستبد الحزن بمي زيادة.. ذاك ما كان من أمر جبران وحبه البريدى، أما حبها من بعده للشاب الوسيم عباس محمود العقاد الذى حرَكَ قلبها برسائله في البداية فقد قبلت الذهاب معه إلى السينما فى حى الظاهر تسبقه إليها حتي لا يشاهدا معًا، وكانت مى أحد حبين للعقاد كانت فيهما البطلة الأولى أما الثانية «سارة»، فقد انشغل بها دون أن توخزه ذكريات صاحبة الصالون..
مى التى ظلوا يرثون عبقريتها ونبوغها وأنوثتها وجمالها.. ليست سوى امرأة عاشت وأحبت وتعذبت وكابرت ثم قضت واستراحت.. مى كما قالت عنها الدكتورة بنت الشاطئ قصة استشهاد طويل وإن ظن الناس أنها لم تتوجع إلا فى محنتها الأخيرة..
ماتت مى حين كانوا يظنونها ممتلئة بالحياة
ماتت مى الأنثى على مرات ولكن أحدًا لم يحس بموتها، أحسته هى فراح بعضها يبكى علي بعضها..
ترحل مي وتختفى مسودات كتابها ليالى العصفورية من جوار فراشها.. والآن وبعد انقضاء 76 عامًا يأتى الكاتب واسينى الأعراج لينكأ جراح الحب والمعاناة وظلم الأقربين وهجر الأصدقاء وليالي المهدئات والجنون في حياة ملكة دولة الإلهام وأميرة النهضة الشرقية كما وصفها مصطفي عبدالرازق..
هيكل ورشوان
قامتان وطنيتان لابد وأن نضعهما في مرتبة الشرف لسابق نجاحاتهما، وحاضر إنجازاتهما، أسامة هيكل رئيس مدينة الإنتاج الإعلامى، وأول وزير للإعلام بعد ثورة 25 يناير الذى استطاع لأول مرة في تاريخ مبني ماسبيرو أن يضع الفيل في المنديل، بتقرير حد أقصي للأجور، وزيادة رواتب صغار العاملين، وإلغاء الورقة الصفراء اللازمة للسفر للإعلام الرسمي، ورغم رحيل اللواء سيف اليزل كتؤأم الصورة السياسية لهما معا، فنشاط هيكل الملحوظ الذى شاهدناه فوق السجادة الحمراء، في الحفل الأسطورى لمدينة الإنتاج الإعلامى الذى حضره مؤخرا 1300 مدعو بمناسبة مرور 20 عاما على إنشائها، يظهر جدية الرجل المسئول الدءوب الذي يُسقط لأول مرة عن مدينة الطاقات الخلاقة ديونها، لتبدأ فى تحقيق الأرباح بعد أقل من 3 سنوات من توليه أمرها، وينجح هيكل فى تسهيل إجراءات تصوير الأفلام الأجنبية لنستقبل عن قريب جنيفر لوبيز وتوم كروز وبراد بيت وميريل ستريب، وشاروخان الهند تحت عدسات وديكورات مدينة الإنتاج الإعلامى بمصر.
وما أن عٌين ضياء رشوان نقيب الصحفيين الأسبق منذ أشهر معدودات فى يونيو 2017 رئيسا للهيئة العامة للاستعلامات التابعة لرئاسة الجمهورية حتى عاد لهيئة الموات التى تعمل بإمكانات كسيحة ـ علي طول سنين ــ نبض الحياة، فقد أتاها من يشعل الدنيا نشاطا حوله، وأصبح هناك منبر يرد على افتراءات الإعلام فى الداخل والخارج، متابعا يقظا لما يبث هنا أو هناك، ليجلي الحقائق بالأدلة والبراهين الدامغة.. رشوان استمع له رئيس الجمهورية ونحن معه ليشرح بوضوح على مائدة حوار «حكاية وطن» ما تقوم به الاستعلامات الآن من جهد في مجابهة الإرهاب فحق له علينا جميعا أن ندعمه قبل غيرنا بالحقائق متسلحًا بها لمجابهة الهجمة الشرسة القادمة التى أعد لها الأشرار تحت عنوان «مصر الجائزة الكبرى»..
وزأر الأسد
تلك المخلوقات المحنطة الكامنة فى توابيتها تدب فيها الروح مع قدوم موسم الانتخابات الرئاسية لتطالب بالمسيرات للاتحادية، والبشر قبل الحجر وتردى الأوضاع والسياسة الرشيدة ومش رايحين والشعب هو السيد.. وعندما هرعت لدعمها وتمويلها نفوس في قلبها مرض.. زأر الأسد.. فدارت مذعورة تتلفت حول نفسها بارتجاف: أنا يطلع لى أسد!!