المساء
محى السمرى
بين التواكل والإهمال
"يا عم خليها علي الله".. عبارة نسمعها كثيراً ويرددها الناس في كل مناسبة.. سواء بنية صافية أو غير صافية.. والعقلاء يرددون بأن هذه العبارة لا تعني إلا التواكل علي الله.. صحيح أن الله بيده كل شيء وكل أمر ولكن هناك رأي آخر هو أن يعقل الشخص الأمر ثم يتوكل علي الله.. ولا يجوز أن يحيل كل أمر غير معقول علي الله.. لأن الله سبحانه وتعالي لا ينظر إلي الأمور الغلط ولا يقف أبداً مع كل عاص أو مخالف للشرائع والقوانين أو المهمل في أداء عمله.
صحيح أن الاتكال علي الله هو خير.. مادام موضوع التوكل لا تشوبه شائبة أياً كانت.
تذكرت هذه العبارة التي سمعتها كثيراً بمناسبة المأساة التي حدثت في بنها بسقوط مصعد المستشفي الجامعي ومصرع سبعة مواطنين.. وإصابة عدد آخر وهذه الكارثة دليل قاطع علي الاتكال والإهمال.. والواضح أن عدد ركاب المصعد كان أكثر من العدد المقرر.. ولو فرض أن هناك أحداً اعترض بأن العدد كبير وفيه خطورة علي المصعد.. لتطوع البعض الآخر بالكلام بسرد عبارة خليها علي الله.. ولكن هذا الاتكال لا ينفع مع هذه المخالفة الجسيمة لكل القوانين والشرائع.. ولهذا سقط المصعد بمن فيه من ارتفاع يصل إلي عشرين متراً هذا جانب والجانب الآخر هناك اهمال.. قائم وصيانة غائبة والكشف الدوري علي المصاعد لم يتحقق.. ومن هنا حدثت المصيبة.
طبعاً هناك مسئولية.. والمسئولية تبدأ من عامل المصعد وهل كان موجوداً بداخله.. فإذا كان موجوداً هل نبه إلي أن العدد أكثر من المسموح به وهل طلب من بعض مستخدمي المصعد أن ينتظروا خارجه لمرة أخري.. ثم هل لاحظ العامل أن المصعد به خلل ما.. وهل أبلغ رؤساءه بأي عيب لاحظه.. وهل رؤساءه كانوا يتابعون أعمال الصيانة.. ويبدو أنه لا يوجد من يتابع أو يمارس سلطاته في تنفيذ التعليمات وفي متابعة الصيانة المرورية.. ولهذا سقط المصعد.. وبالتأكيد هناك جهات أخري قد تتعرض مصاعدها إلي مثل هذه المآسي.. وقد شاهدت بالفعل علي شاشة احدي المحطات الفضائية لقطات سلبية لبعض المستشفيات الحكومية والجامعية.. ويبدو مما عرض أن كل شيء في هذه المستشفيات متهالكة.. سواء في أجهزة الأشعة المعطلة ومعامل التحاليل التي لا تعمل طبعاً لعدم وجود خامات وأيضاً لافتقادها للصيانة بالإضافة إلي ما تتمتع به هذه الوحدات من قذارة متراكمة والقطط الضالة تتنزه في أروقتها.. شيء غريب فعلاً أن يكون كل هذا وغيره موجوداً في دور العلاج المفروض فيها أن تكون علي أعلي درجة من الكفاءة والانضباط والنظافة وتوافر الأجهزة.
وقرأت أيضاً في الصحف أنه في احدي مدن الوجه البحري ذهب الناس إلي المستشفي الحكومي.. وفوجئوا بأن الأطباء متغيبون والممرضات والممرضين والفنيين اختفوا وكأنهم في اجازة وتصادف أنه ذهب إلي هذا المستشفي رئيس مجلس المدينة وفوجيء هو الآخر بأن المستشفي لا يوجد به أطقم العلاج من أطباء وغيرهم كلهم في حالة غياب كامل.. كل الذي فعله رئيس المدينة هو تحويل طاقم المستشفي إلي التحقيق وكان عددهم 118 ما بين طبيب وممرضة وفني.. هل يمكن أن يصل الاستهتار بالعمل إلي هذه الدرجة!! ثم بعد ذلك نسمع عن مطالب فئوية!! ولو بحثنا في كل الأمور الحياتية لوجدنا أن لدينا غابة من القوانين في كل شيء وكل مجال.. له شروط وقائية وتنظيمية.. ولكن ماذا نقول في اناس يضربون بعرض الحائط كل هذه اللوائح والقوانين.. مثلاً حركة المرور لها قوانين وتعليمات تنص علي عدم السير في الاتجاه العكسي.. ولكن هناك هواة لكسر القانون.. وعندما يتم تنبيه السائق إلي الكارثة المحتملة وراء تصرفه يقول.. "يا عم خليها علي الله".. واذا قيل له إن القاعدة في هذه العبارة هو أن تعقل الأمر.. ثم تتوكل فإن المخالف دائماً يصم اذنيه أو ينظر إليك باستهزاء إلي أن تحدث الكارثة.
ونفس الحالة في القوانين التي تنظم المباني.. تجدها في معظم الأحيان بها مخالفات.. والحكومة لا تفعل شيئاً إلا أن تتصالح!! وصاحب العقار يحصل علي ترخيص بعدد معين من الأدوار ولكنه يهوي مخالفة الترخيص ويزيد من عدد الأدوار المسموح بها وعندما يتم تحذيره بالمخالفة يقول "خليها علي الله".. في حين أن العقار قد لا يتحمل أي أدوار زيادة والنتيجة أنه قد تحدث كارثة.. وهذا ما شاهدناه كثيراً خصوصاً في الإسكندرية.. عمارات تميل وأخري تتصدع وثالثة تنهار.. وهكذا..
يضاف إلي ذلك أن كل المصانع والورش لها لوائح تعرف باسم الأمن الصناعي.. والمطلوب من كل وحدة صناعية أن تحصل علي ترخيص بمزاولة العمل.. وهذا الترخيص يتضمن شروطاً لتطبيق القواعد التي يجب توافرها لحماية المنشأة والعاملين فيها من اخطار العمل.. والوقاية من الحريق أو من أي اخطار أخري.. وطبيعي أن هذه اللوائح الغرض منها حماية الناس.. ولكن نجد من يستهين بها بل وينفذها فقط علي الورق.. وقد تأتي الكوارث نتيجة هذه "الصهينة" في تنفيذ القواعد المطلوبة.
والأكثر من هذا أن هناك ورشاً صناعية تمارس عملها بدون ترخيص وبدون ضوابط وهي ما تعرف باسم ورش أو "مصانع بير السلم".
وعادة يثور تساؤل أين الرقابة وأين المتابعة وأين الحملات التي تضبط مثل هذه الورش.. وتعيدها إلي الصواب وتطبيق شروط وقواعد الأمان.
والحقيقة أن ما ذكرته ليس إلا حالات ضئيلة وبجوارها كم هائل من الحالات التي يتفنن أصحابها فيها مخالفة القوانين واللوائح بل والضمير.
نحن لدينا قوانين ولوائح وتعليمات والمفروض أن كلها يجب أن تحترم وأن يلتزم بها الجميع.
وفيما يروي أن أحد المستوردين اليابانيين وكان يستورد سلعة ما من انجلترا وسأل الُمصِّدر الإنجليزي هل هناك توقع بوجود خطأ ما.. رد المصدر طبعاً لا.. وإذا حدث فلن يصل إلي الخطأ!! واحد في المائة ورد الياباني قائلاً معذرة نحن لا نرضي بأي خطأ ولو كان واحداً في الألف.. لأن السلعة المتعاقد عليها منصوص علي مواصفاتها في العقد.. وبالتالي لا تهاون ولا تصرف.. وطبعاً ولا فهلوة.
إن حادث الأسانسير هو حادث بشع لعدة أسباب لأن سقوطه أدي إلي وفاة وإصابة عدد من الضحايا.. ثانياً أن المصعد قائم في مستشفي لخدمة المرضي والمترددين عليه ثالثاً.. إن الإهمال وعدم تنفيذ التعليمات هو سبب آخر.. وبديهي أن استمرار الحال الذي نسير عليه لن يكون حادث الأسانسير هو الأخير بل سيتكرر.. ولا نملك إلا الحسرة والحزن.. علي الضحايا وأيضاً علي الإهمال.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف