الأهرام
مصطفى السعيد
كبح الاستيراد طريق إنقاذ الاقتصاد الوطنى
أهدر رجال الأعمال المصريين الكثير من فرص النهوض التى كانت كفيلة بأن تضع مصر بين كبرى الاقتصاديات فى العالم، وأهم هذه الفرص جاءت مع الطفرة النفطية عندما تضاعف سعر البترول أكثر من عشرة أضعاف سعره عقب حرب أكتوبر 1973، من نحو 3 دولارات للبرميل إلى أكثر من 30 دولارا، بفضل استخدام البترول العربى كسلاح اقتصادى لصالح العرب للمرة الأولي، ليخرج ملايين المصريين للعمل فى ليبيا والعراق والسعودية والكويت والإمارات وقطر، وتتدفق التحويلات الدولارية الهائلة، والتى كانت كفيلة بانطلاقة سريعة للصناعة المصرية التى كانت مهيأة لنهوض كبير، بعد تشييد قلعة صناعية ضخمة خلال الستينيات، لكن عوامل النهضة تحولت إلى أخطر انتكاسة، فقد واكب حركة هجرة العمالة المصرية فتح باب الاستيراد على مصراعيه، بسياسة الانفتاح الاقتصادي، لتتدفق السلع من كل صوب على السوق المصرية السائبة بدون ضوابط، لتنمو طبقة من التجار والمستوردين، الذين نمت على تحويلات المصريين العاملين فى الخارج، وتتضاعف أعداد محال ترويج البضائع المستوردة، من السيارات الفارهة حتى الأجهزة المنزلية والملابس، حتى أصبح السوبر ماركت هو العلامة المميزة لمشروعات الثمانينيات والتسعينيات، وغزت القرى والنجوع، لتنشر ثقافة الاستهلاك الترفى على حساب الإنتاج. هكذا كانت تعيش مصر على عوائد ضخمة يجرى تبديدها أولا بأول فى تخريب الاقتصاد المصرى على أيدى طبقة المستوردين وكبار التجار، الذين قضوا ليس فقط على عوائد كانت كفيلة بتحويل مصر إلى دولة صناعية كبرى مثل كوريا الجنوبية أو البرازيل أو الصين, بل اتسعت شهيتها لتقضى على عدد هائل من المصانع المصرية، التى لم تصمد طويلا أمام منافسة البضائع الأجنبية الرخيصة، وبالتالى لم يتم استغلال الوفرة المالية فى إنعاش الطلب على المنتجات الوطنية لتتطور وتستطيع توسيع سوقها إلى المنطقة العربية، التى كانت جاهزة لاستهلاك الصناعات المصرية، وتصبح الصناعة المصرية الملبى الأول لطلبات الدول العربية النفطية، لتنطلق منها إلى العالمية، وتصبح مصر من أقوى اقتصاديات العالم لو استغلت هذه الفرصة.

لا تقتصر المشكلة على فرص ثمينة للغاية قد ضاعت، فقد انقلب حال الاقتصاد المصري، وأصبحت مصر مجرد منطقة تجارة حرة، فالعاملون يشتغلون فى دول أجنبية والسلع تأتى من دول أجنبية، ومصر منطقة التبادل بين عوائد عمل المصريين فى الخارج والسلع المتدفقة من الخارج، وهو ما أدى إلى دخول الاقتصاد المصرى دائرة التهميش فى مجالات الإنتاج والخدمات، حتى الزراعة المصرية تلقت ضربات قاتلة عندما خرج الفلاحون للعمل فى العراق وليبيا وغيرهما من دول النفط، وكل من يعود يقوم بتجريف الأراضى الزراعية لتحويل تربتها الخصبة إلى طوب أحمر يبنى به بيتا كبيرا متعدد الطوابق، وساعدت سياسة توريد الحاصلات الزراعية من قطن وأرز وقمح إلى الدولة بسعر بخس إلى المزيد من الانهيار الزراعي.

استمر استنزاف عوائد المصريين بالسلع المستوردة رغم تراجع عائدات المصريين العاملين بالخارج، حتى إن السيارت الصغيرة مثل «التوك توك» جرى استيرادها بكثافة من دول شرق آسيا دون الاهتمام بتصنيعها محليا، رغم سهولة تطوير الورش المصرية فى الكثير من المدن لإنتاج مثل هذه السيارات الصغيرة أو الماكينات الزراعية وغيرها من السلع التى يمكن أن تنعش الإنتاج المحلي. إن النظرة الضيقة لرجال الأعمال، وتركيزهم على الاستيراد والتوكيلات الأجنبية جعلت منهم العدو الأول لتطور الصناعات المصرية، بل تدهورها الخطير، بينما كانت مؤهلة لتحقيق أكبر نهضة صناعية فى تاريخ مصر، وهذا لا يبرئ الحكومات المتعاقبة التى كانت ترضى وتعمل لخدمة هذه الفئات من رجال الأعمال.

إن التخريب المتعمد للإنتاج الصناعى والزراعى فى مصر قد وضعنا فى أزمة خطيرة امتدت إلى جميع المجالات، من الصحة إلى التعليم إلى باقى الخدمات، فقد انسحبت الدولة من التعليم العام لصالح التعليم الخاص والاستثماري، وانسحبت من العلاج الحكومى لصالح المستشفيات الخاصة والاستثمارية، وتحول التعليم من خدمة إلى سلعة لا يستطيع أن يدفع تكلفة الخدمة الجيدة فيها إلا فئات محدودة، ليسقط باقى المجتمع فى براثن التخلف العلمى والمهني.

دفعت مصر ضريبة هائلة نتيجة هذه السياسات، وحان الوقت لوقف هذا الاستنزاف، لأننا اقتصادنا منهك بما فيه الكفاية، ويحتاج إنقاذا عاجلا، يبدأ من سياسات تضعها الحكومة لمنع استيراد كل ما يمكن إنتاجه، والتخطيط السريع للاعتماد على القدرات الإنتاجية المحلية، ونحن لسنا أفضل حالا من الولايات المتحدة التى كانت تضغط على باقى دول العالم من أجل حرية الأسواق والتجارة، لكنها تعانى الآن من تدفق سلع دول آسيا وأمريكا الجنوبية الأرخص، وقررت الحد من الاستيراد، لإنعاش صناعاتها وتوفير فرص العمل لشبابها، وأن تقتصر التسهيلات على المشروعات الإنتاجية، ورفع معدلات الضرائب على الأنشطة التجارية وكبح جماح الاستيراد.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف