الوطن
د. محمود خليل
«مدح وقدح» وبينهما «ردح»
تلك هى الثلاثية التى أصبحت تحكم الكثير من المنصات الإعلامية حالياً. منصات المدح شغلها الشاغل المديح الذى يجعل قصائد المتنبى فى مدح سيف الدولة تتوارى أمام نثرياتهم، مدح يعتمد على السرديات الإنشائية الطفولية أكثر مما يعتمد على الشرح والتوضيح والإقناع بالمعلومة وتفسير الأحداث بشكل يُرضى عقل الجمهور، ثم تأتى منصات القدح التى يتركز همُّها فى إهالة التراب على كل شىء من خلال البحث عن السلبيات، والتحريض على كل شىء، وتصغير كل سعى، والاجتهاد فى الصراخ على المشاكل دون توصيف يساعد على فهمها، أو تقديم حلول للتعامل معها، وما بين هذين النوعين من المنصات تظهر منصات الردح، وما أكثرها وأغزرها على خريطة الإعلام المصرى، وفيها يتحول الإعلام إلى مصطبة أو حوش يقف فيه ردّاح أو ردّاحة لا يعرف أو تعرف فى قاموس اللغة سوى مفردات السب والشتم والتخوين والاتهام والانتقاص من الآخرين.

يقول البعض إن الإعلام المصرى حالياً يشبه إعلام الستينات، وهو كلام غير واعٍ بحالة الإعلام خلال تلك الحقبة والأوضاع الإعلامية التى نعيشها هذه الأيام. إعلام الستينات كان إعلاماً أحادياً على المستوى السياسى هذا صحيح، لكن الإعلام الحالى ليس نقيضاً له على هذا المستوى لأنه لا يجتهد فى تقديم وجهات النظر المتعارضة. إعلام الستينات كان أحادياً، لكنه استند إلى منظومة داعمة للتوجه الذى تبنّته السلطة واعتبره أغلب المصريين حينها توجهاً قومياً. كانت فكرة المشروع القومى تحرك الجميع عن إيمان وقناعة أفلح الإعلام فى غرسهما فى عقل ووجدان الجمهور، المشهد الإعلامى الحالى على غير شكل، فهو يستند إلى مجموعة من الأصوات الأحادية يعتمد كل صوت فيها على نفى الآخر وإقصائه، وبالتالى لا تستطيع أن تقول إنه يقدم نموذجاً يعتمد على تعدد وجهات النظر -خلافاً للإعلام الأحادى- بل يقدم إعلاماً «استقطابياً» يتراوح بين الدعاية والتحريض. إعلام الستينات كان إعلام موضوع وفكر ولم يكن إعلام مناظر، لك أن تقارن بين مقدمى البرامج التليفزيونية خلال تلك الفترة على مستوى الثقافة والتكوين، ومقدمى البرامج هذه الأيام حتى تعرف الفارق بين من تربوا فى قاعات العلم والمكتبات والمعلومات، وبين إعلاميين تربوا فى أحضان المصالح.. وما أدراك ما المصالح!. فارق كبير بين إعلام يقود السياسة وإعلام مقود بالجماعات السياسية.

إذا جاز لنا أن نشبّه المشهد الإعلامى الحالى فعلينا أن نعترف بأنه أشبه بـ«إعلام سوق عكاظ»، حيث كان الشعراء ينبرون ليشنف هذا آذان الجمهور بقصيدة مدح، وذاك يُسمعهم قصيدة ذم، وآخر يُكئبهم بمرثية تستجلب اللطم والبكاء على الحال. إنه ببساطة «إعلام أسواق» تتشابه البضائع لدى الباعة الذين يقفون فيها، باعة يصرخون على بضاعتهم بأصوات متنافرة متعاركة بشكل يجلب الصداع للزبون. لذلك قد يمر عليها الزبون فى اليوم الأول ويقضى فيها ساعة أو ساعتين، ثم يخرج منها، ثم يمر عليها فى اليوم الثانى فلا يتحمل المكوث فيها أكثر من ساعة، وفى اليوم الثالث يخرج منها عازماً على عدم العودة إليها، مردداً فى سره مقولة: «الأسواق شر بقاع الأرض»!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف