الأهرام
جمال عبد الجواد
أركان الدولة الأربعة
الأرض والشعب والحكومة يصنعون دولة. هذا هو التعريف القانونى للدولة، حيث كل دولة لها إقليم بحدود معروفة، وشعب يعيش عليه، وحكومة تديره وتتحدث باسمه. التعريف القانونى لا يقول لنا لماذا تدير بعض الدول أمورها بنجاح، فيما تفشل فى ذلك دول أخرى؟ لماذا بعض الدول مستقرة، فيما بعضها الآخر مضطرب؟ لماذا لبعض الدول نفوذ وسطوة، فيما بعضها الآخر ألعوبة فى يد الآخرين؟

التعريف القانونى يركز على ما هو مشترك بين الدول: الإقليم والشعب والحكومة، فيجعل الدول تبدو كما لو كانت متشابهة ونسخا من بعضها البعض، مع أننا نعرف أن لبعض الدول أركانا ثابتة، فيما بعضها الآخر مضعضع الأركان. للدولة أربعة أركان هى السلاح والمال والتنظيم والأفكار. السلاح هو القدرة على الدفاع ضد أعداء الخارج، وعلى معاقبة مخالفى القوانين، وقمع محاولات العصيان والانشقاق فى الداخل. السلاح، أو القوة المادية والجيش هو الشرط الأسبق فى وجوده الدولة، أى دولة. فكثير من الدول تكون نتيجة الغزو العسكرى الخارجي، وكثير آخر منها تكون نتيجة لانتصار الفريق الأقوى من بين فرقاء محليين متنافسين. امتلاك القوة العسكرية كان هو الهم الأول لدول الشرق الأوسط التى هالها حجم التفوق العسكرى الغربي. سعت دول الشرق الأوسط لامتلاك قوة عسكرية وجيوش حديثة، وحول هذه القوة تشكل مشروع الدولة الحديثة فى بلاد الشرق الأوسط الرئيسية. عصر التنظيمات فى تركيا، وعصر محمد على فى مصر، ورضا شاه فى إيران، هى مراحل بناء الجيش الحديث، واستحداث ما استلزمه ذلك من مؤسسات وممارسات فى التنظيم الإدارى ونظم التعليم والصناعة والاقتصاد. الجيوش الحديثة فى الشرق الأوسط لم تكن مجرد مشروعات لامتلاك القوة، ولكنها كانت مشروعا كاملا لتحديث الدولة والمجتمع، وبقدر النجاح فى تنفيذ هذه المهمة بقدر ما تم تثبيت ركن أساسى من أركان الدولة الحديثة.

المال هو الركن الثانى من أركان الدولة. بناء الدولة الحديثة مشروع ذو تكلفة عالية. بناء الجيش الحديث له تكلفة كبيرة. الجيش الحديث هو جيش المقاتلين المحترفين المتفرغين. تخصيص قسم من السكان لمهام الدفاع والقتال، وتزويدهم بالموارد اللازمة لذلك يحتاج أموالا كثيرة. الدولة الحديثة هى دولة البيروقراطية الإدارية التى تتولى تنظيم جميع جوانب الحياة فى المجتمع، بدءا من تنظيم حركة السير فى الشوارع، وإجراءات النظافة والصحة العامة، وصولا إلى شئون الأمن والدفاع، ولهذا أيضا تكلفته.

المال فى بعض الحالات يكون ضروريا لتأليف قلوب فئات الشعب القادمين من دروب شتى. لا تستخدم الدولة فى هذه الحالة القوة المسلحة لفرض الطاعة والانضباط، ولكنها تستخدم المال لشراء طاعة المواطنين وولائهم واحترامهم للقوانين. فى غياب المال تضطر الدولة للضغط على الشعب لإجباره على دفع مقدار أكبر من الضرائب، وهو ما قد يؤدى إلى إثارة الفتن والانشقاق. نقص المال قد يجبر الدولة على التخلى عن بعض مهامها، أو أدائها بكفاءة أقل، فيتراجع رضا الشعب، وتقل شرعية الحكام، وتزيد فرص الانشقاق. مصرنا من بلاد العوز المزمن، الأمر الذى يضع دولتنا تحت ضغط دائم بسبب النقص فى الثروة. التنمية الاقتصادية فريضة وأولوية لتوفير سبل الحياة، ولتوفير دواعى الاستقرار السياسى أيضا.

التنظيم هو الركن الثالث من أركان الدولة الحديثة. جهاز الإدارة البيروقراطى هو التنظيم الأهم المميز للدولة الحديثة. البيروقراطية تحفظ دولاب العمل اليومي، وتنظم وتدير شئون الاقتصاد والمجتمع. البيروقراطية لا تتبع أهواءها، لكنها تطبق اللوائح والقوانين نفسها فى جميع أرجاء الدولة، فتتحقق الكفاءة والعدالة والعقلانية، أو ما سماه عالم الاجتماع الألمانى الشهير ماكس فيبر «العقلانية القانونية». هذا هو التنظيم البيروقراطى كما يجب أن يكون، و كما نجده فى الدول المتقدمة. التنظيم البيروقراطى فى بلادنا متواضع الكفاءة، ولا يخلو من فساد، وأفراده يتبعون أهواءهم فى تفسير اللوائح والقوانين. مشكلات البيروقراطية الكثيرة فى بلادنا تؤكد أن ركن التنظيم فى دولتنا فيه خلل، وأن جهدا كبيرا مازال مطلوبا فى هذا المجال.

البيروقراطية ليست هى المكون الوحيد لركن التنظيم فى الدولة الحديثة. الدولة الحديثة هى دولة الامة، وهى دولة الجماهير الغفيرة، التى دخلت المجال السياسى من خلال متابعتها لوسائل الإعلام، واجتماعها فى تجمعات كبيرة من خلال الحياة فى مدن الصناعة والتجارة والخدمات والإدارة التى ازدهرت فى العصر الحديث. الجماهير الغفيرة من المتعلمين أبناء الطبقات الوسطى والعاملة تطالب بلعب دور سياسي، وترغب فى المشاركة فى تقرير مصير الحكم، ولابد من تنظيمها كى تفعل ذلك بترتيب، وإلا اندفعت للمجال العام والسياسى بلا نظام، محدثة فيه فوضى عارمة، وما الثورة إلا التدفق المفاجئ لأعداد هائلة من البشر فى قنوات النظام السياسى الضيقة، محدثة فيها انسدادا يتبعه الانفجار الكبير. فى بلادنا صحراء تنظيمية موحشة، فأحزابها السياسية لا تعمل، ونقابات عمالها منزوعة الفعالية، وجمعياتها الأهلية ممزقة بين الرغبة فى تعزيز المشاركة، والخوف منها فى آن معا.

الأفكار هى الركن الرابع من أركان الدولة الحديثة. الدولة الحديثة هى دولة الشعب والأمة، وليست مجرد تجمع للناس يعيشون فى بقعة جغرافية واحدة. الشعوب والأمم تجتمع على أفكار تميزها وتوحدها. الاتفاق حول هوية الجماعة هو الفكرة الأولى الجامعة التى تحتاجها كل دولة كركن لها. نتفق على هوية مصرية جامعة، لكن فينا قسم غير قليل يضع إسلامنا فى مواجهة مصريتنا. فيما وراء مبدأ الوطنية المصرية الذى يتفق عليه أغلبنا وتتخذه مؤسسات الحكم عقيدة لها، والذى حفظ لهذا البلد وحدته فى ذروة التأزم، فإننا نبدو مختلفين على كل شيء آخر، بدءا من الشكل الذى يجب أن تكون عليه ملابسنا، انتهاء بعلاقتنا بالعالم وموقعنا فيه. ينشر بين النخب شتات من الأفكار المتنافرة، فيما الجمهور الغفير غائب عن جدل الأفكار وصراعها. الأفكار توحد النخب والجماهير، وتعزز وحدة الجماعة الوطنية، وفى غيابها يظهر هناك خواء فكرى تنتشر فيه العدمية والانتهازية والتطرف.

هذه هى الأركان الأربعة لدولتنا، وعلينا أن نتقدم فى تعزيزها جميعا بشكل متواز ومتوازن، تجنبا للخلل والاختلال.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف