لميس جابر
الراقصة والمواصفات ومحاربة الملل
الحمد لله.. انتهت كل مشاكل مصر.. فى الداخل انتهينا من العشوائيات تماماً.. لم نعد نرى أطفال شوارع.. المقاهى الآن تقفل أبوابها.. لا يوجد وقت فراغ لدى عاطل.. الجميع يعمل.. عاد القانون ليفرض سيطرته على الدولة من أصغر موظف وحتى بائع الليمون والجرجير.. المرور أصبح مثل مرور الدول المتقدمة.. انتهت الحوادث، لم نعد نرى «توك توك» ولا شاباً يقود وهو يشرب البانجو.. السوق المصرى اكتفى بالإنتاج المحلى من الفراخ والأسماك والخضر والفاكهة وبدأ التصدير لكل دول العالم.. المدارس لدينا الآن على مستوى اليابان وفنلندا.. القرى الأكثر احتياجاً أصبحت مدناً حديثة رائعة الجمال.. الاحتياطى النقدى تعدى التريليون دولار وأصبح الدولار أخيراً بـ«ربع جنيه».. السياحة عادت بالملايين فى كل أنحاء مصر من قاهرة المعز وحتى بحيرة ناصر فى أسوان.. قضينا على الإرهاب تماماً فى الغرب والجنوب والشمال، عادت سيناء واحة خضراء تنعم بالأمن والعمل والمشاريع العملاقة.. الحدود الغربية أصبحت آمنة، واستقرت ليبيا وعادت إلى الحياة، والرحلات بين البلدين لتلاميذ المدارس طوال العام.. السودان عاد ليتحد مع مصر ليعود شعار «وادى النيل».. رحلت إسرائيل إلى القطب المتجمد الشمالى بعد عودة سوريا ولبنان وفلسطين إلى كيانات عفية قوية.. قطر تلاشت واندمجت كإمارة فى اتحاد الإمارات وأغلقت قنواتها.. اليمن عادت سعيدة جداً.. خضراء هادئة.. تركيا شاهدت ثورة على «أردوغان» وانضمت للاتحاد الأوروبى وابتعدت عنا.. إيران استقرت وتحررت من «الملالى» وتركت كل مواقعها فى الوطن العربى.. الحمد لله.. السعادة ترفرف علينا هنا فى مصر.. الهدوء والأدب والالتزام بالقانون فاق الحد.. نحن نحيا الآن فى حلم جديد.. الجميع مبتسم وهادئ.. الشوارع اختلفت، والعائلات استقرت.. أصبحنا مثل سويسرا أخيراً.. ولكن بدأنا نعانى من المشاكل التى تعانى منها سويسرا وهى الإحساس بالملل والفراغ، فكل شىء جميل ورائع.. لا مشاكل.. لا يوجد حراك سياسى ولا درامى ولا مفاجآت.. لذلك، كان لا بد من كسر هذا الملل وملء هذا الفراغ الذى تشكو منه عادة الدول المكتفية المستقرة، والحمد لله هلّت بشائر سعيدة مثيرة بقضية الراقصة «جوهرة»، التى اكتشفنا أنها تدعى «أيكاترينا أندريفا»، روسية تعمل فى مركب عائم، أثارت إعجاب بعض الشباب المراهق، وانتشرت صورها على الفيس بوك «السويسرى» انتشار النار فى الهشيم، وهوب حدث استنفار مجتمعى وأمنى على مستوى الدولة والمجتمع والناس، ويبدو أن هناك مواطناً سويسرياً يعانى من حالة استنفار أخلاقى وحضارى بلّغ عنها، وأسرعت مباحث السياحة بالقبض على الست «جوهرة» بتهمة أنها لا تمتلك ترخيص مزاولة المهنة والعمل فى مصر.. إلى هنا الإجراء كان بغرض الحفاظ على قانون البلاد.. ولكن التهمة التى أُعلنت أنها ترتدى بدلة رقص «مخالفة للمواصفات»، وتطورت التهمة إلى ارتكابها أفعالاً وحركات راقصة تثير الغرائز وتحرّض على الفجور والفسق.. وبدأ الملل ينقشع وتركت المواقع الإخبارية كلها ما لديها وتفرغت لمتابعة «جوهرة»، وخرج علينا «المحامى» السويسرى برضو بمداخلات فى الفضائيات ليدافع عن موكلته الروسية التى «تأكل عيش» بالقانون، وقال إن «الأمن الوطنى» يرغب فى ترحيلها لخطورتها على الأمن القومى المصرى...!! ورغم قلقى على الأمن القومى المصرى من «جوهرة» إلا أن شيئاً خفياً قد طمأننى على مصر.. وقلت فى عقل بالى.. ياما يا مصر أصابتك الأهوال والأحداث الجسام، وبإذن الله سنعبر ببلادنا من أزمة تهديد الأمن القومى، و«جوهرة» زائلة ومصر باقية، ولاحقتنا الأخبار المتتالية التى فاقت فى عددها وعناوينها أهمية افتتاح «حقل ظُهر»: «جوهرة» سترحل عن البلاد.. شاهد «جوهرة» فى غرفة الحجز.. ثلاثة أيام تقضيها «جوهرة» فى أقسام الشرطة.. المحامى الفذ يتواصل يومياً مع الإعلام ويطمئن المصريين بأن «جوهرة» بخير.. خرجت «جوهرة» بكفالة 5000 جنيه.. «جوهرة» تتناول السمك فى نزهة على النيل.. ثم.. فى انتظار مؤتمر صحفى لـ«جوهرة» نفسها لتقول حقيقة ما حدث.. وخلاص.. اشتهرت «جوهرة» وكسبت دعاية مجانية وضعتها فى مصاف نجوم الفن السويسرى الهادف، وكل ده بخمسة آلاف جنيه.. واستقرت الأمور وعدنا إلى الملل والفراغ الحضارى الذى أصبحنا نعانى منه.. ولكنى أعتب على شرطة السياحة والمصنفات فى تقصيرها الشديد فى حق المجتمع والفن والناس والقانون.. وكان الواجب عليهم ومنذ زمن سحيق أن يشكلوا لجنة أو هيئة قومية لدراسة مواصفات بدلة الرقص الشرقى بالتفصيل.. ويخرجوا بتوصيات لهذه الشروط ومشروع قانون محدد يستوفى الشروط تماماً ويشمل كل تفاصيل بدلة الرقص من حيث الطول والعرض والضيق والاتساع واللون والترتر والكرانيش وأيضاً وضع شرط صريح لشكل «الشورت» مع مواصفات «الشورت» الذى لا يثير الغرائز ولا يحث على الفجور والفسق، مع الأخذ فى الاعتبار استعمال الصاجات وحركات الأيدى والأرجل والصدر والأرداف.. وهذه الحركات لا بد أن تستوفى الشروط والمواصفات بدقة ويا ريت يُنشر بالجريدة الرسمية جدول شامل للحركات ذات المواصفات، مع الحركات الممنوعة بتاتاً.. حتى يأمن المجتمع المصرى المستقر الآمن الخالى من كل المشاكل شرور المواصفات والخروج على القانون وينتهى من مصر تماماً إلى الأبد الفسق والفجور.. لا أقول أبداً بلاها رقص، وبلاها كباريات. لا. الحرية كل الحرية للشعب والفن الراقى أبو مواصفات لا بد أن يبقى وكله بالقانون وربنا يخلى مباحث الآداب وشرطة السياحة والمصنفات والشروط الدقيقة، سوف أحيا فى الهدوء والسكينة والاستقرار والرخاء مع شعب مصر الذى قارب عدده على المائة وعشرة ملايين، وسوف نقاوم الملل والفراغ بشتى الطرق حتى تأتوا لنا بجوهرة أخرى من جواهركم.