الوطن
د. محمود خليل
«إعلام التخويف»
لست أدرى ما سر حالة الهوس التى يعيشها الإعلام هذه الأيام بـ«إرعاب الناس»، لسان حال الكثير من البرامج والمواد الإعلامية التى يتابعها الجمهور تدور فى الأغلب حول فكرة أننا مهددون وأن بعض زعماء العالم ورؤساء الدول يستيقظون صباحاً فيفركون أعينهم ويطرحون على أنفسهم السؤال اليومى: ماذا نحن فاعلون بمصر اليوم؟!. وبالتالى ينصح الإعلام والإعلاميون المصريين بعد أن يفركوا أعينهم مع مشرق كل صباح أن يحمدوا المولى كثيراً على أنهم لا يزالون على قيد الحياة! يُمسك هذا الإعلامى أو ذاك الخريطة فيُسهب فى الحديث عن التهديدات التى تأتينا من الشرق والغرب، وتحاصرنا من الشمال والجنوب، ولا يكلف خاطره بأن يقول للمشاهد ما أبعاد هذه التهديدات، ولا الخطط التى سوف تسلكها الدولة فى مواجهتها (هى تهديدات وخلاص)، ولا ينسى فى ختام الكلام أن يذكرك بأن عليك أن ترضى بما قسمت الحكومة لك وأنها «النافع الوحيد» للمصريين.

فى أحد مشاهد فيلم فى الهوا سوا للراحلين: كمال الشناوى وشادية وإسماعيل ياسين وزوزو نبيل كانت البطلة «شادية» تخضع لعمليات تنويم مغناطيسى ممنهج من جانب «زوزو نبيل» زوجة الأب التى أرادت تزويجها من قريبها «نافع» حتى يستوليا على الثروة التى ورثتها عن والدها، فى حين أن البطلة كانت تحب آخر، لعلك تذكر المشاهد التى كانت زوزو نبيل تنوم فيها «شادية» مغناطيسياً وتردد على أذنها «كل الناس عدوينك.. كل الناس بيكرهوك.. الوحيد اللى بيحبك هو نافع.. نافع.. نافع»، ظنى أن «إعلام التخويف» لا يقل سذاجة ولا كوميدية عن المشاهد التى اشتمل عليها هذا الفيلم.

وإذا جردنا المسألة من جانبها الكوميدى، وحاولنا التوقف أمام الأدوات التى يعتمد عليها «إعلام التخويف»، فسنجد أن أولها يتمثل فى «إشاعة حالة من الغموض»، من خلال بث أخبار غير مفسرة عن تحركات فى مؤسسات أو أماكن تثير القلق فقط، لو أنك رأيت مجموعة من الناس مقبلة بسرعة من اتجاه وتجرى إلى اتجاه آخر، فستجد نفسك تجرى خلفهم، جرب أن تصرخ وتجرى فى الشارع وستجد كل الناس تجرى من ورائك، لا لشىء إلا لأن البشر يحركهم الخطر الغامض أكثر مما يحركهم الخطر المعلوم، ثانى هذه الأدوات «الضغط على مشاعر وأحاسيس المتلقى» من خلال إغراقه فى عالم من الصور والخيالات والأوهام عن الآخر الذى لم يسمع كلام «مامته الحكومة» فكان مصيره الجوع والعطش والتشرد فى بلاد الله، وأن الطفل الشاطر هو من يسلم حياته لمامته ويمتثل لتوجيهاتها حتى ينجو من الخطر الذى وقع فيه آخرون، الأداة الثالثة تتمثل فى تقديم كأسين للمتلقى أحلاهما مر، أو بعبارة أخرى الاعتماد على رسالة «إما.... وأو»، «فإما الحاضر.. أو المستقبل»، و«إما الغلاء.. أو الجوع»، اللعب فى هذه الحالة يتم على أعصاب الجمهور، ومن المعلوم بالضرورة أن أعصاب الجمهور خفيفة!.

هناك قاعدة إنسانية تقول: «كل شىء يزيد عن حده ينقلب إلى ضده»، الشجاعة إذا زادت عن حدها تحولت إلى تهور، والكرم إذا زاد عن حده تحول إلى سفه، والحرص إذا زاد عن حده تحول إلى بخل، كذلك «التخويف» إذا زاد عن حده انقلب إلى «يأس»، وإذا كان الخوف «يقعد» الإنسان عن الحركة، فإن اليأس يدفعه إلى الاندفاع غير المحسوب، لأن طول الدنيا فى نظر اليائس يماثل عرضها!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف