محمود سلطان
لماذا لا نتساءل بتجرد.. لماذا لا نجرب؟!
هل بات وجود "جماعة" داخل الحالة الإسلامية، ضرورة تاريخية، على نحو يقنع بأن "المشروع الإسلامي" لن يقوم إلا على أكتاف "تنظيم" أو "جماعة".. تنضبط تحت علاقة سلطة تقوم على الضبط و"العسكرة" و"السمع والطاعة"؟ّ!
لم لا نفكر في اتجاه آخر؟!.. ولم لا نقتنع بأن فكرة "الجماعة" أو "التنظيم" بمعناه السياسي والأيديولوجي.. يعني: أننا مازلنا نقف عند منعطف ما قبل "الدولة الحديثة" ، حيث ينتصر الرأي العام للعصبيات بأشكالها المختلفة ، فيما يتراجع الولاء للدولة لصالح الولاء للأشخاص أو الجماعات السياسية والدينية! ما يفرز ظاهرة "تعدد السلطات" الموازية للسلطة الشرعية للدولة.. خاصة وأن فكرة "الحزب" في الغرب الأكثر تقدما سياسيا، تراجعت لصالح فكرة "التيار" ، والأخيرة أعتقد أنها هي الأكثر قربا من التجربة الفقهية والقانونية والدستورية في التاريخ الإسلامي.
أئمة الفقه والقانون والدستور الكبار مثل : أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل ـ رحمهم الله جميعا ـ لم يؤسسوا تنظيما سياسيا ، بل "مرجعيات" فقهية ترتكز على "المصداقية" في التأثير واستقطاب واصطفاف الرأي العام، وتحولوا جميعا بمضي الوقت إلى "تيارات" في الأمة ، وتم تصنيف الناس استنادا إليهم إلى حنفية وشافعية ومالكية وحنابلة، ولا يزال حضورهم "الفقهي" ـ رغم تراجع تأثيرهم السياسي في الحاضر ـ يؤثر في الجميع حتى الآن، فيما شاهدت بعض فترات حياتهم عمليات صدام عنيفة مع السلطة، ليس بسبب حشد الأتباع والتلاميذ من خلال " تنظيم " يتبع سبيل نقل الأوامر من الكوادر العليا إلى الأتباع بصرامة، تحيله بمضي الوقت إلى حالة من العسكرة ـ كما يجري الآن لدى بعض الحركات الإسلامية ، بل والأحزاب السياسية أيضا ـ وإنما كان الصدام بسبب منزلتهم "المرجعية" ـ وليست التنظيمية ـ التي كان بإمكانها أن تحرك الثورات وحركات التمرد على السلطة المركزية في "بغداد" أثناء الحكم العباسي.
لقد اختفى "المنصور" الذي أهان "مالكا" وعذبه ، وحبس أبا حنيفة إلى أن مات الأخير ـ رحمه الله ـ في السجن، وظل الإمامان الكبيران في وجدان الأمة حاضرين كـ"تيار" فقهي كبير يشارك حتى الآن في صوغ الرؤى الدينية والسياسية .
لقد اختفى هارون الرشيد وبقي الشافعي ، وكذلك اختفى المأمون والمعتصم والواثق وبقي أحمد ابن حنبل وغيرهم .. بقوا كتيارات تؤسس لبناء فكري وثقافي وسياسي وفلسفي عظيم أبقى على هذه الأمة حية عصية على كل محاولات إخماد روح الجهاد ـ بكل درجاته ـ
وفي هذا السياق فإن ظاهرة "التيار" التي كانت موجودة قد اختفت وتراجعت كثيرا مع ظهور فكرة تأسيس الأحزاب السياسية في بدايات القرن الماضي، فلربما أجهضت "الحزبية" مشاريع مرجعية كبيرة كانت الأمة ثرية بها ، مثل محمد عبده والأفغاني ورشيد رضا والكواكبي وحسن البنا وسيد قطب وغيرهم .. إذ كانوا جميعا "مشاريع" لتأسيس تيارات كبيرة لم تكتمل، ربما بسبب الافتنان بفكرة الأحزاب كبديل لفكرة "المرجعية" الفقهية.. ولذا أعتقد أن الفكرة تحتاج فعلا إلى مراجعة وإلى تساؤلات ، ولعل اجتهادا جادا في هذا الإطار قد يكون بداية لهذه الرحلة الشاقة والمضنية .. فلماذا لا نتساءل بتجرد.. ولماذا لا نجرب؟!