الأهرام
القمص أنجيلوس جرجس
الثورات تخطئ أحياناً
ثورات الشعوب دائماً حالمة بالعدل والغد الأفضل المشرق، حالمة بنهاية عصور الاستبداد والظلام. ولكن أغلب الثورات -إن لم يكن كلها- لها أخطاء، فكم من ثورات كانت لها أهداف نبيلة وإنسانية ولكن لا يوجد شيء بشرى بلا أخطاء. ونحن نعيش هذه الأيام فى حالة من الجدل والعراك الفكرى والسياسي، فبعد حالة الاستقرار التى عاشتها مصر فى السنوات السابقة بدأت تطفو على الساحة أصوات تعيد إلينا نغمات تحريضية ومسميات ثورية، ورغم سقوط الأقنعة إلا أن الكثير صار يردد نفس النغمات القديمة، وحتى نستطيع أن نرى الطريق جيداً لابد أن ننظر إلى التجارب التى مرت بالوطن. والتاريخ الحديث يذكر لنا ثورتين كبيرتين أثرتا فى الشعوب، الثورة البلشفية فى روسيا والثورة الفرنسية.

قامت الثورة البلشفية عام 1917م على حكم القياصرة بعد أن وصل حال الشعب الروسى إلى فقر كبير حتى إن نصف مصانع روسيا وشركاتها الكبرى قد أُغلقت وتراجع مستوى الأجور إلى النصف. ومع هذا أعلنت الحكومة استمرارها فى الحروب ضد قوات المحور رغم الهزائم، فاستغل البلاشفة هذا الوضع وأطلقوا نداء الثورة. والبلشفية كلمة روسية تعنى الأغلبية، ونزل إلى الميادين مئات الآلاف يحملون لافتات «تسقط الحرب وتسقط الرأسمالية».

واجتاحت روسيا اضطرابات دامت سبع سنوات، انقسم الجيش وقتها وأعلن البلاشفة انتفاضة مسلحة ودارت حرب أهلية سقط خلالها ملايين القتلي، وتقول الإحصائيات مليونين وأخرى تصل إلى سبعة ملايين. وانتهت بسقوط القياصرة وبداية حكم البلاشفة، وبدأت حركة إعدامات لما يسمى أعداء الشعب أعدم فيها ربع مليون شخص، وبدأت حرب على الإيمان والأديان وانتشر الإلحاد.

وكتب لينين قائد الثورة إلى لجان فى حزب العمال الاشتراكى يقول: «أعزائى الرفاق... لجان القتال حبر على ورق... أنكم تتكلمون عن القتال منذ أكثر من ستة أشهر دون أن تصنعوا شيئاً... فلتتشكل فصائل مسلحة فوراً وليقوموا بعمليات قتالية وينسفوا مراكز البوليس ويهاجموا البنوك للاستيلاء على الأموال». كانت هذه هى الثورة البلشفية التى قامت على الدماء والإلحاد. وبعد سبعين عاماً اكتشفوا خطأ التجربة وبدأت روسيا فى تعديل المسار السياسى والفكرى والروحي.

وفى فرنسا كانت الثورة تحمل شعاراً براقاً ونبيلاً وهو الحرية والمساواة والإخاء إلا أنها سقطت فى أخطاء مدمرة جعلت فرنسا تعيش فى حالة الفوضى مائة عام. فقد كانت السنوات العشر الأولى بعد الثورة 1789م حالة من الصراعات حتى إنه باسم الثورة أُعدم من الشعب أربعون ألفاً وقد ذاق الفقر، وقد وقف الكاتب «توماس بن» الملقب بملهم الثورة ضد همجية الثوار وقال لهم: «إن كانت الثورة قد نجحت فلماذا الرق والهمجية والقتل». وكتب أيضاً: «أن الثورة التى تقتل وتهدم هى ثورة فقدت الإنسانية والرحمة. فالثورة ليست أداة للقتل، ولا يمكن للإنسان أن يكون ثائراً للحق وهو يقتل ويهدم الوطن». ولكنهم لم يسمعوا كلامه بل أصدروا أمراً بالقبض عليه فهرب من فرنسا.

وظلت الأحوال فى تخبط حتى استولى الألمان على فرنسا عام 1940م، وقد كان الضابط شارل ديجول قد أعتقل فى هذه الحرب وحكم عليه بالإعدام فهرب إلى لندن. ومن هناك أخذ يشكل جيشاً لتحرير فرنسا، وكان يكلم الفرنسيين من خلال الإذاعة وقال خطابات صارت محفوظة فى ذاكرة كل الثائرين، بل أعلن اليونسكو اعتبار خطب ديجول من ذاكرة تاريخ العالم وحضارته، وأعلنت فرنسا مؤخراً يوم أشهر خطاب له عيداً قومياً، الذى قال فيه: «أيها الفرنسيون لقد خسرنا معركة ولكننا لم نخسر الحرب... سوف نناضل حتى نحرر بلدنا الحبيب، لا ينبغى أن نقف ولن نقف».

وصارت كلماته يحفظها كل الثائرين لتحرير أوطانهم... وفعلاً تحررت فرنسا عام 1944 م ورجع فى اليوم التالى واستقبله الفرنسيون استقبال الأبطال الفاتحين.

والغريب فى سلوكيات الشعوب أن يكون نفس الشعب الذى رحب به واعتبره البطل الحقيقى للحرية، هو الذى تذمر وثار عليه بعدما جلس على كرسى الحكومة. واستقال ديجول بعد عامين وقال: «يوماً ما سوف تقوم هذه الأمة باستدعائى مرة أخري». وفعلاً بعد صراعات وانقلابات وتخبط سياسى يمينى ويسارى طالبه الشعب بأن يحكم فرنسا مرة أخرى بعد انتخابات عام 1959م وحكم فترتين متواليتين. وفى فترة حكمه أعاد هيبة فرنسا وأعلن حق الدول الإفريقية فى تقرير المصير، واعترف باستقلال الجزائر، وهاجم أمريكا فى حربها على فيتنام وفى تدخلها فى سياسة الدول الأخرى وقال: «أمريكا تريد أن تكون كلمتها قانوناً على العالم». وهاجم إنجلترا لانحيازها لأمريكا وقال: «إنجلترا هى رأس جسر أمريكا فى أوروبا» - وما أشبه الليلة بالبارحة نفس السياسة ونفس التدخل ونفس الصور القديمة تعاد مرة أخرى وكأن لا أحد يريد أن يغير التاريخ رغم أخطائه.

وهاجم إسرائيل فى عدوانها عام 1967. وكل هذه المواقف جعلت تلك القوى تحاول إسقاطه فمن خلال المؤامرات والخيانة هاج عليه الطلبة والعمال أيضاً نفس الصور تعاد فى كل تاريخ وأحدثوا اضطرابات عام 1968 م، ولأنه زعيم حقيقى لم يرض أن يستمر بهذه الصورة فأعلن استفتاء عاما على سياسته وللأسف خسر، فاستقال عام 1969 م وفى اليوم التالى لاستقالته مات. نعم مات وهو يرى عمره كله وتاريخه يهان بأيدى الخونة والمأجورين، ولكن الآن فرنسا تفتخر بهذا الرجل وتتغنى بتاريخه لأنه وضعها فى مصاف العظماء بعد فترات الضعف.

إنه مصير العظماء أن ينال منهم الأقزام والخونة... ثم ينصفهم التاريخ بعد مماتهم.... عزيزى القارئ اقرأ التاريخ لتفهم الحاضر علنا نعبر بأوطاننا من مصائر الظلمة والجهل والخيانة.

فيا أحبائى رفقاً بالوطن وبالبشر، فأحوال الشعوب ليست مجالاً للهو ولا التجارب ولا لتحقيق المكاسب الشخصية. فأنين الفقراء وصرخات الجوعى ومعاناة المظلومين تظل تلاحق كل من يجلس ليحكم الشعوب وهو يبحث عن مجد ذاتى ومصالح شخصية. ففى عالم تحكمه قيم الغابة تحتاج الشعوب إلى زعماء يستطيعون أن يحموا الضعفاء والفقراء والمشردين.

كاهن كنيسة المغارة الشهيرة
بأبى سرجة الأثرية
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف