تبدو العلاقة بين الدولة المصرية وجيشها العظيم علاقة وجود، فجيشنا الباسل يعد الضامن الرئيسي لبقاء الدولة المصرية ذاتها، إنه صوتها القوي وقلبها الصلب، فالتحولات الدراماتيكية التي شهدتها المنطقة العربية، ومحاولات التفتيت الممنهج لعالمنا العربي التي سعت إليها قوى دولية كبرى مدعومة بقوى إقليمية ناشئة، فتحت الأفق السياسي العربي على جملة من السيناريوهات المعدة سلفا، فسقطت دول، وانهارت جيوش، فبدءا من سقوط بغداد في العام 2003، والفجوات تزداد اتساعا داخل النسيج العربي، ولا تكاد تمر بضع سنوات الآن إلا ونحن نرى بلدا عربيا على شفا الانهيار. ولعل الخروج الهادر لملايين المصريين في ثورة يناير 2011، كان تعبيرا عن رغبة حقيقية في مجاوزة حقب من الإظلام السياسي، والتحالف المستمر بين الفساد والرجعية، كذلك التعامل الانتهازي والفاضح لجماعات الإسلام السياسي التي هيمنت على الفضاء العام عقب الثورة، فبدأت تسفر عن وجهها البدائي القبيح، وفرغت كل شيء من معناه، وبدأنا في الدوران في حلقة مفرغة، ووقع المصريون في فخ استبداد سياسي وديني، فضلا عن محاولات مستمرة لتفتيت الهوية الوطنية المصرية الجامعة لكافة أطياف الشعب المصري وتمثيلاته النوعية، ومن ثم جاءت ثورة 30 يونيو 2013 خلاصا من المتاجرين بالدين، والمتأسلمين والكذبة ومدمري الأوطان لمصلحة تصورات الخلافة الوهمية.
وبعزم لا يلين، وإرادة تليق بالرجال، كان الجيش المصري دائما صمام الأمان للدولة المصرية، حتى إن المخيلة الجمعية للجماهير تتعامل مع جيشها بوصفه قادرا باستمرار على حل أزماتها، وفي الحقيقة فإن الجيش لم يخذل ناسه قط، ولن يخذلهم أبدا، ليس فحسب وفق حقائق التاريخ والتراكم الحضاري، والتقاليد العسكرية المنضبطة، ولكن بحكم التراث الوطني، بوصفه أول جيش نظامي في العالم. وعلى رمل سيناء العزيزة الآن وفي أجوائها، بل وفي محيطنا المائي، تسطر قواتنا الباسلة صفحة جديدة من صفحات المجد والفخار، حيث انطلقت العملية الشاملة سيناء 2018، لاقتلاع الإرهاب من سيناء، وربما بدت اللقطات المتاحة سواء عبر الصور أو الفيديو تعبيرا بليغا عن قوة هادرة، لا تعرف سوى المعارك النبيلة، تقاوم القبح والتطرف والإرهاب، حاملة جملة من الرسائل السياسية للداخل والخارج، تحمل قدرا من الطمأنينة لداخل يريد البعض إشعاله بأجواء من الأكاذيب المستمرة، خاصة قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة، ويتسق مع هذا الطرح أيضا استمرار المحاولات العدائية من التنظيمات الإرهابية الخارجة من رحم الإخوان على غرار حركة حسم التي كانت تخطط لعمليات إرهابية تثير الاضطرابات داخل البلاد، وأفشلت الداخلية المصرية مخطط الإخوان الغادر في هذا السياق.
أما الرسائل الخارجية فتتمثل في التكريس للقوة المصرية الحقيقية في محيط إقليمي ودولي معقد ومتشابك، تبدو دوائر الحصار الإقليمي الثلاث لعالمنا العربي، ممثلة في إسرائيل وتركيا وإيران، وتقف مصر بثبات ضد الأطماع التوسعية للدول الثلاث في وطننا العربي، إن مصر هنا تقدم نموذجا نبيلا على المسئولية التاريخية للأمم الكبرى وهي تصنع التاريخ تارة، أو تدفع شروره الماكرة تارة ثانية.
وإنه لمن المخزي حقا أن نجد خطابات نظرية تناصر التطرف، وتقلل مما يفعله الجيش المصري، وتحاول النيل من عزيمة رجاله، وإنه لا شك عندي أن أصحاب هذه الخطابات ليسوا أكثر من متثاقفين، يرون العالم من منظورهم الضيق، يرتبطون بخطابات اليمين الديني بدرجة أو بأخرى، حتى وهم يعلنون تصورات يسارية راديكالية من وجهة نظرهم فإنهم في الحقيقة لا يقدمون سوى رطان فارغ لا يغادر الحلوق التي جفت من كثرة الكذب.
إن الوعي الماضوي الذي يسكن بعض هؤلاء المتثاقفين، والتصور الجاهز عن العالم، والخضوع للآلة الجهنمية لقطاعات في الميديا الغربية تخدم قوى الاستعمار الجديد ووكلائه في منطقة الشرق الأوسط، كل هذا يدفع باتجاه ضرورة النقد الموضوعي لكل الخطابات المطروحة، فليس ثمة لحظة للفرز أكثر من لحظتنا هذه، أما الميوعة والمواقف الرجراجة التي تضع قدما في المواجهة الشاملة ضد الإرهاب، وقدما أخرى ضدها، فإنها في الحقيقة لا تخدم سوى أصحابها من المرتبطين بأجندة التحالف بين الرجعية والاستعمار الجديد، وهي أجندة تخضع بامتياز لثقافة من الذي يدفع للزمار، وهي السياسة الثقافية التي أتى على ذكرها سوندرز في كتابه المهم (الحرب الباردة الثقافية / من الذي دفع للزمار)، والذي يكشف المسكوت عنه في كيفية توظيف السياسي للثقافي، وعملية شراء الذمم التي تتم على نطاق واسع، بحيث يصبح المثقف محض ترس في آلة، سيأتي يوم ما ليصاب بالصدأ، والآلة نفسها تعاني العطب.
إن خطاب التقدم وقيمه حين يسعى لتفكيك ظاهرة التطرف والإرهاب، طارحا خطابا تنويريا حقيقيا ، يجب عليه أيضا أن يقف مع ناسه من جنودنا، حيث يصبح المثقف أعلى تمثيلات الحقيقة وعينة ممثلة لجمهوره. المجد لمصر ولجيشها العظيم.