والسؤال إذن: ما العلاقة بين الفقيه الإسلامى ابن تيمية من القرن الثالث عشر والفريد جول إير كبير فلاسفة بريطانيا وويلزفان كواين كبير فلاسفة أمريكا(1908ــ2000) وهما من القرن العشرين؟ أبدأ بابن تيمية وأوجز فكره فى مسألة محورية هى التأويل على نحو ما هو وارد فى كتابه ادرء التعارض بين العقل والنقلب حيث يقرر أن الشرع يقوم على السمع، أى على ما سمعناه من الرسول صلى الله عليه وسلم. ولهذا فإن ما هو ثابت بالسمع فهو ثابت سواء علمنا بالعقل أم بغير العقل ثبوته، أو لم نعلم بثبوته لا بعقل ولا بغيره. ومعنى ذلك أن ثبوت ما أُخبرنا به ليس موقوفاً على عقولنا لأن مهمة عقولنا أن تعلم بهذا الذى سمعته دون تأويله.
والسؤال إذن: لماذا يرفض ابن تيمية التأويل؟
يرفضه لأن التأويل، فى رأيه، يعنى صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر فى حين أن كل آيات القرآن واضحة فى معناها وليس هناك خفاء. ولهذا فليس ثمة مبرر للتأويل. ولا أدل على ذلك من قوله «إن التأويل تحريف الكلم عن مواضعه ومخالف لإجماع سلف الأمة». ومعنى ذلك أن ابن تيمية يشترط الإجماع فى تفسير النص الديني، والتأويل خروج على الاجماع، ومن ثم فالتأويل ممتنع. والنتيجة الحتمية بعد ذلك أن يكون العقل مساوياً للسمع، أو بالأدق، هبوط العقل إلى مستوى الحس. وفى هذا المعنى يتم إلغاء العقل لحساب الحس ومن ثم يتم الاكتفاء بالحس. إذن طاعة العقل للسمع لازمة، ومن ثم يتأسس المجتمع على السمع والطاعة. والمجتمع الذى يتأسس على هذا النحو اسمه مجتمع القطيع، وهو المجتمع الذى يُطالب بتأسيسه حزب الإخوان المسلمين. هذا عن ابن تيمية فماذا عن السير الفريد إير؟
إنه المرَوج لفلسفة حلقة فيينا، وهى حلقة نشأت فى عام 1924 وكانت تضم علماء رياضة وفيزياء مع وجهة نظر فلسفية وكان رئيسها مورتس شليك عالم ألمانى فى الفيزياء النووية. وكانت الغاية من تأسيسها إشاعة رؤية علمية تحصر الفلسفة فى المنطق وتستبعد كل العلوم التى تزعم أنها تتناول قضايا مجاوزة للواقع المحسوس مثل علوم العقائد وعلم الوجود العام والعلوم الإنسانية والاجتماعية. وقد التحق إير بهذه الحلقة. وفى عام 1936 أصدر كتاباً عنوانه «اللغة والصدق والمنطق» وكان عمره 26 عاماً بلور فيه فلسفة حلقة فيينا التى تستند، فى رأيه، إلى مبدأ التحقق من صدق القضية العلمية إذا كان لموضوعها مقابل فى الواقع الحسي، ومن غير هذا المقابل فإن القضية تكون بلا معنى إلا إذا كانت قضية يكون أحد طرفيها كامنا فى الآخر وبالتالى لا تكون فى حاجة إلى مقابل حسي.
وما يهمنى هنا هو أن حلقة فيينا تجاهلت مصطلحين من أهم المصطلحات الشائعة فى القرن العشرين وهما الحضارة والثقافة. وقد كان من نتيجة هذا التجاهل أن انشغلتُ بالبحث عن وسيلة لاستعادتهما فلم يكن أمامى سوى الجمعية الفلسفية الأفروآسيوية لكى تكون منبراً لهذا الذى أنشده، ومن ثم كان مؤتمرها الفلسفى الدولى الأول الذى انعقد فى القاهرة فى عام 1978 تحت عنوان «الفلسفة والحضارة» بمشاركة تسعة من كبار الفلاسفة الذين كانوا أعضاء فى اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الدولى للجمعيات الفلسفية وكان من بينهم إير. أردت مداعبته فطلبت منه تبريراً لمشاركته، وكان جوابه أنه جاء مشاركاً بصفته إنساناً وليس بصفته فيلسوفاً، ولذلك فمن حقه إبداء الرأى فى أى شئ من شئون الانسان. ومع ذلك فقد أبدى غضبه من بحثين ألقيا فى الجلسة الأولى من فيلسوفين آسيويين أحدهما باكستانى والآخر ياباني. قال: «لقد دعانى البروفسير وهبة للمشاركة فى مؤتمر فلسفى فماذا بى أمام مؤتمر دينى». وعندما كنت أتردد على جامعات انجلترا فى السبعينيات و الثمانينات من القرن الماضى سمعت شكوى من بعض الفلاسفة الشبان من أن إير أصبح متحكماً فى مسألة نشر الكتب الفلسفية إلى الحد الذى أصبح فيه من المحال نشر كتاب خارج فلسفة حلقة فيينا. وما قام به إير فى انجلترا قام به كواين فى أمريكا. واللافت للانتباه أن كواين التحق بحلقة فيينا فى العام نفسه الذى التحق فيه إير، ثم عادا سوياً إلى بلديهما ليبشرا بفلسفة هذه الحلقة. وكل ما كان من فارق بينهما بعد ذلك هو أن كواين كان واضحاً وصريحاً فى ضرورة حصر الفلسفة فى المنطق بوجه عام وفى المنطق الرياضى بوجه خاص.
والسؤال إذن: ماذا يبقى للعقل من مجال لكى يلهو به؟
مجال الحس ليس إلا وهو المجال الذى لا يتقن الانشغال به إلا فكر ابن تيمية وإلا حزب الاخوان المسلمين المروج لذلك الفكر والمتغلغل به فى المؤسسات الثقافية فى كل من انجلترا وأمريكا. والمسئولية فى كل ذلك تقع على حلقة فيينا وعلى كل من إير وكواين وكل مَنْ سار على دربهما فى بلدان كوكب الأرض.