منذ سنوات طويلة؛ حدثنى أبى - رحمه الله - عن مقال قرأه - قبل سنوات أطول- لكنه لم ينسَه، لعل المقال فيما أذكر كان للأستاذ الكبير الراحل أحمد بهاء الدين. عنوان المقال كان: «لا يا شيخ!»، وقد راح أبى يشرح فكرة العنوان وإيحاءاته؛ فالكاتب أراد أن ينقد ويرفض تصريحا أو تصرفا لأحد الشيوخ فى عصره، فاختار هذا العنوان، الذى نستخدم نفس كلماته فى أحاديثنا العامية المعتادة كسؤال استنكارى هزلي؛ «لا يا شيخ؟!»، ليوحى بعدم جدية المسألة. وصار العنوان أيقونة، تستخدم فى مقالات عديدة، وها أنذا أيضا أستخدمه، بهدف النقد والرفض، أما إذا أردتَ الإيحاء فأنتَ وشأنك. أنت حر.
ولكن؛ كيف تكون حرًا إذا وجدتَ شيخًا -أو أكثر- يوجهك بـ(فتوى دينية) نحو (طريق سياسي) بعينه دون غيره؟!. تابع معى المسألة حتى النهاية، فالأمر خطير ويستحق.
البداية كانت رسالة نصية قصيرة تلقيتها على هاتفي، من أحد المواقع الإلكترونية الكبرى يوم 29 يناير الماضي، جاء نصها كالتالي: «دار الإفتاء: الممتنع عن أداء صوته الانتخابى آثمٌ شرعًا». والمفارقة أننى كنت أشارك وقتها فى مؤتمر عن «مكافحة التطرف» بمكتبة الإسكندرية!. أزعجتنى الرسالة كثيرا، وقررت متابعة المسألة.
اطّلعتُ على المادة التى نشرها الموقع الإلكترونى ذاته، والتى تطابقت تقريبا؛ عنوانًا ونصًا، مع ما نشره موقع آخر كبير بعد يومين!. ولكن ما مصدر هذه المادة؟!. هل هو بيان صحفى صادر عن دار الإفتاء؟. سيلتبس عليك الأمر إذا ما حاولتَ البحث عن إجابة، فالمواقع تقول لك تارة إنها «فتوي» للدار، وتارة أخرى إنها «الرأى الثابت لدارالافتاء». ولكن هل تحدثت دار الإفتاء - الآن- عن الانتخابات؟. لن تعرف بسهولة، فالصحافة والإعلام لعبةٌ خطيرة، لكننى بحثتُ وعرفت!.
تبين لى أن ما نشرته المواقع هو جزء من نصّ فتوى قديمة مطوّلة، أصدرها مفتى الجمهورية الأسبق الدكتور نصر فريد واصل يوم 9 أكتوبر عام 2000، لاحظ التاريخ، قبل الانتخابات البرلمانية وقتها. ولكن لماذا تم استدعاء هذه الفتوى الآن من مرقدها؟!. هل أرسلتها دار الإفتاء كبيان صحفى جديد للصحف والمواقع أو هل تحدث المفتى الحالى الدكتور شوقى علام فى الأمر؟. الحق أن المفتى دعا، فى برنامجه الأسبوعى «حوار المفتي» على قناة «أون لايف»، إلى المشاركة بكثافة فى العملية الانتخابية لإعطاء رسالة إيجابية للعالم. وهذه دعوة (سياسية)، كنا نتمنى ألا تصدر عنه، بحكم موقعه (الديني)، لا سيما فى الظرف الدقيق الذى يمر به الوطن، لكنه على أى حال لم يتعرض فى حديثه بالمرة لمسألة تأثيم عدم المشاركة فى الانتخابات!.
ولعل كل ما سبق من التباس قد دفع دار الإفتاء إلى إصدار بيان رسمى واضح أول فبراير الحالي، نفى فيه الدكتور إبراهيم نجم مستشار المفتى ما سماه «ادعاء بعض كتَّاب الصحافة الإلكترونية والفضائيات إصدار فضيلة المفتى والدار فتاوى تزج بفضيلته والدار فى معترك السياسة الحزبية فيما يتعلق بتأثيم من لم يشارك بالتصويت فى الاستحقاقات الديمقراطية».
كان يمكن أن نقول إن الأمر انتهى عند هذا الحد، لكننا على مدى أيام هذا الالتباس الكبير رصدنا تصريحًا آخر، للدكتور خالد عمران أمين الفتوى بدار الإفتاء، أدلى به لبرنامج االطريق إلى الاتحادية «على قناة أون لايف»، حيث قال: «إن المشاركة فى الانتخابات أمانة، والله أمرنا بأداء الأمانة، والبخل بأدائها خيانة لهذا الوطن، والله لا يحب الخائنين»، مستندًا أيضا إلى فتوى عام 2000 القديمة. وبالطبع سرعان ما تلقّفت التصريح مواقع إلكترونية معروفة بأغراضها، لتقول: «دار الإفتاء تصف مقاطعى الانتخابات بالخونة»، فيما يعد أكبر خلط للدين بالسياسة!.
أما الكلمات التالية فهى قصّةٌ وحدها؛ الشيخ عبيد عبداللّاه مدير منطقة الوعظ الدعوية الأزهرية بقنا خرج علينا بتصريح نشرته «المصرى اليوم» فى 31 يناير، متجاوزا كل ما سبق، فقال: «إن الله هو من أراد بمشيئته أن يكون عبدالفتاح السيسى رئيسا لمصر، وليس بإرادة السيسي، ولا بد من الوقوف مع الله من خلال من اختاره رئيسا، بأن يقف جميع المواطنين خلف السيسى فى الانتخابات الرئاسية». لاحظ أن المتحدث هو مدير الوعظ والدعوة!.
أخيرا.. تلك قصة ما جري، وما يبقى هو عذاب الأسئلة؛ لقد ثُرنا فى «يونيو» ضد استخدام (الدين) للتوجيه نحو رأى (سياسي) واحد، فلماذا يصر البعض على العودة بنا إلى الماضي؟!. ومتى نتعلم اختراعًا اسمه (العمل السياسي)؟! التساؤلاتُ قلقة لكن ليست متشائمة؛ فالشعوب لا تتغير بين عشية وضحاها، وثقتى بوعى المصريين كبيرة، هم لا ينتظرون دعوات إلى المشاركة أو المقاطعة، وعيُهم وحدُهم هو الحاكم، وكلمتهم الدائمة لكل من يتلاعب بهم؛ سواء من شيوخ الفتوى أو السياسة أو الإعلام، هي: «لا يا شيخ!».