الأهرام
جمال عبد الجواد
لندخل المرحلة الثانية للإصلاح الاقتصادى
أمامنا تحديات اقتصادية صعبة. ليس فى هذا مفاجأة. فمصر ليست من بين دول العالم التى حباها الله الغاز والبترول بغير حساب؛ ولا هى صاحبة واحدة من المعجزات الاقتصادية الكبري، مثل الصين أو كوريا.

تحتل مصر المرتبة الـ 15 بين دول العالم من حيث عدد السكان، ولكنها تحتل المرتبة رقم 40 مِن حيث حجم الناتج المحلى الإجمالي، فهناك 25 دولة أقل منا فى عدد السكان لكنها تنتج من الثروة ما يزيد عما ننتجه.

تزيد الصورة بؤسا اذا علمنا ان مصر تحتل المرتبة رقم 99 وفقا لترتيب البنك الدولى لعام 2015 للدول من حيث نصيب الفرد من الناتج، بما يعنى ان هناك 98 دولة فى العالم يزيد فيها متوسط نصيب الفرد من الثروة عن متوسط نصيب الفرد من الثروة فى مصر، وهو ما يعنى ايضا أن ما يضيفه الفرد للاقتصاد والثروة الوطنية فى 98 دولة فى العالم يزيد عن متوسط ما يضيفه الفرد فى مصر للاقتصاد الوطني، وهذا هو جوهر تأخرنا الاقتصادي.

جوهر مشكلة التخلف الاقتصادى فى مصر هو الانخفاض الشديد فى إنتاجية الفرد. فعندما يمثل موظفو الحكومة خمس إجمالى القوة العاملة فى البلاد، فإن لدينا انخفاضا فى الإنتاجية. وعندما يذهب الموظف كل يوم إلى مكتبه ويعود منه دون تقديم إسهام حقيقى لتحسين الخدمات أو تسريع الاستثمار وزيادة الإنتاج، فإن لدينا انخفاضا فى الإنتاجية. وعندما يقضى آلاف الباعة ساعات طويلة جالسين أمام فرشة عليها صنف واحد من السلع الرخيصة، فإن لدينا انخفاضا فى الإنتاجية. وعندما تقضى آلاف الأسر الريفية أغلب وقتها فى زراعة قراريط قليلة يملكونها، فإن لدينا انخفاضا فى الإنتاجية. وعندما يكسب الآلاف رزقهم من مهن هامشية، هى أقرب للتسول منها لأى عمل حقيقي، فإن لدينا انخفاضا فى الإنتاجية. وعندما يصبح التوك توك وسيلة مواصلات أساسية بالنسبة لملايين الناس، فيقوم سائق التوك توك بنقل راكب أو اثنين لمسافة قصيرة مقابل جنيهات قليلة، فإن لدينا انخفاضا فى الإنتاجية. وعندما يهجر الآلاف الحرف اليدوية المنتجة للعمل كسائقين للتوك توك، فإن لدينا انخفاضا فى الإنتاجية. فإذا كان هذا هو الحال السائد عندنا فلا سبب للعجب من انخفاضا ناتجنا الوطني، ومن ارتفاع نسبة الفقر فى بلادنا.

لدينا قوة عمل كبيرة يزيد حجمها على 29 مليونا، لكن حجم ما ينتجه هؤلاء أقل بكثير مما ينتجه أمثالهم فى بلاد أخري. الجهد الذى يبذله الناس فى بلادنا كبير، ومعاناتهم كبيرة أيضا، لكن العائد قليل، وهو بالتأكيد أقل من أن ينقل المجتمع من حالة العوز إلى حالة الثروة. المشكلة ليست فى انخفاض الأجور، لكنها فى انخفاض ما يضيفه العامل من الثروة أثناء ساعات العمل. فالمشكلة ليست فى الاستغلال الاجتماعي، بقدر ما تكمن فى انخفاض الإنتاجية.

زيادة الإنتاجية هى الحل السليم لمشكلة الفقر فى مصر، وهى أيضا الطريق المستقيم لحل مشكلة البطالة فى البلاد، فمشكلة البطالة لن يتم حلها عن طريق خلق وظائف جديدة من نوعية الوظائف محدودة الإنتاجية المنتشرة فى بلادنا، وإنما عن طريق التوظيف الأفضل للموارد المتاحة عبر زيادة إنتاجية الوظائف الموجودة بالفعل، ومع كل زيادة فى الإنتاجية يزيد الطلب الحقيقى على السلع والخدمات، وتُخلق فرص عمل جديدة مجزية.

أحوال مصر تشير إلى أن مصر قادرة على تجاوز صعوبات وضعها الاقتصادي. فاكتشافات الغاز فى البحر المتوسط تبشر بثروات كبيرة تنتظرنا، فى نفس الوقت الذى بدأت فيه سياسات الإصلاح الاقتصادى تؤتى ثمارها، الأمر الذى يرشح مصر لكى تكون قصة النجاح الاقتصادى الكبير التالية. وبقدر ما تثير هذه التطورات التفاؤل، فإنها يجب ألا تخفى عنا المشوار الطويل الذى مازال علينا أن نقطعه، حتى نصل إلى بر الأمان الاقتصادي.

التقارير والشهادات الدولية تشيد بتحسن الأوضاع الاقتصادية فى بلادنا، لكنها تشير أيضا إلى مواطن الخلل التى يجب تركيز الجهد عليها. يشير تقرير التنافسية الدولية الصادر عن المنتدى الاقتصادى العالمى «دافوس»، إلى أن مصر حسنت ترتيبها الدولى بين عامى 2016 و2017 بما قيمته خمسة عشر مركزا دفعة واحدة. هذه نتيجة رائعة، لكن فرحتنا بها لا تصل إلى حد القفز فرحا، لأننا أصبحنا الآن نحتل المرتبة رقم 100 بين 137 دولة يشملها التقرير، فقد ابتعدنا عن ذيل القائمة، لكننا مازلنا بعيدين عن منطقة الأمان.

يقول التقرير إن التحسن فى ترتيب مصر حدث بسبب عاملين هما التطورات المؤسسية فى أجهزة الدولة، وسياسة سعر الصرف، والتحسن فى البنية التحتية لقطاعات الطاقة والنقل والمنافع العامة. أما الأسباب التى تواصل شدنا إلى الوراء، فهى الأسباب ذات الصلة بالإنتاج والإنتاجية، خاصة انخفاض مستوى تأهيل القوة العاملة، والفساد، والبيروقراطية الحكومية منخفضة الكفاءة، وصعوبة الحصول على تمويل للمشروعات.

لقد باتت الصورة واضحة. فإصلاح السياسات والمؤسسات الذى تم تنفيذه خلال الأعوام الأربعة الأخيرة، وكذلك الاستثمارات الكبيرة فى قطاع البنية التحتية قد أثمرا تحسنا فى أوضاعنا الاقتصادية. لكن المزيد من التحسن فى أوضاعنا الاقتصادية يستلزم تحويل التركيز إلى مجالات إصلاح الإدارة الحكومية، والتعليم والتدريب، ومحاربة الفساد، وإتاحة التمويل.

سياسة الشمول المالى التى تطبقها الحكومة والبنك المركزى حاليا تسد الحاجة لتوفير التمويل، فهذه خطوة مؤكدة للأمام، ولكن يبقى أن نرى سياسات تركز على رفع كفاءة البيروقراطية الحكومية والقوى العاملة، حتى تكتمل الدائرة، ونبتعد نهائيا عن منطقة العوز إلى آفاق الثروة، وأظن هذا يمثل جزءا رئيسيا من برنامج الرئيس السيسى فى فترة رئاسته الثانية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف