أسامة سرايا
مصر الآن ما بعد سيناء 2018
تتنازعنى الأولويات فى تشخيص حالة مصر الآن، فهى فى خضم معارك متعددة وأى معركة من هذه المعارك لا تقل أهمية عن الأخري، ويمكن لواحدة منها أن تحتل القمة. ويتوقف العقل أمام كل معركة، ويتصور أنها الأولي، وليس لها معركة شبيهة تنازعها المكانة، ويبدو أن رفاهية اختيار واحدة والتوقف أمامها بالشرح والتأمل قد انتهت، فقد أصبحنا نحارب على جبهات متعددة! وليسمح لى القارئ بأن أستخلص لنفسى أجندة، أراها تشخيصا لمعاركنا الراهنة، وتشخيصا لحالتنا المستقبلية، وكيف استطاعت الدولة والجيل الراهن دخول كل هذه المعارك. ويستطيع هذا الجيل أن يقول بعدها إنه يقف على أرضية ثابتة، تسمح له بالتطور والنمو والبناء..
أولاها، معركة الإرهاب، وقد وصلت إلى ذروتها فى سيناء 2018، لتسجل علامة مصرية لنصر واضح ويجب أن يكتمل، فله ما بعده من حقيقة واقعة، وهذه لها مسارح متعددة فى كل أنحاء مصر وفى الإقليم وفى العالم.
ثانيتها، معركة الطاقة، وعليها تقوم الزراعة والصناعة والاقتصاد، وتلك قصة فريدة انتصرت فيها الإرادة المصرية، ويجب أن تُحكى لأجيالنا والأجيال القادمة، فقد كنا قادرين على التمييز بين العصر والعصر، فأدركنا أننا نعيش فجر العصر الرقمي. ولكن التاريخ والحاضر لم يخرج بعد من العصر النفطي، وقد حافظنا على وجودنا فيه، ودخلنا بعده معركة طاحنة، وفى زمن قياسي، فالنفط والغاز لا يزالان وازنين فى حسابات الدول.
ثالثتها، معركة المياه، والحفاظ على حقوقنا، وحماية نهر النيل، وهذا يعنى حماية إفريقيا، قارتنا ومبعث هويتنا ومستقبلنا ومعارك المياه لها أكثر من وجه، خاصة مع نمو السكان الكثيف وتزايد الاحتياجات، وحماية وزيادة موارد المياه ككل، والنهر خاصة.
ورابعتها، عمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، من بنية اقتصادية وسياسية، تبدأ بعمليات استكمال البنية الأساسية وتطوير المرافق والمؤسسات، ثم التنمية بكل أشكالها، وفى مقدمتها، بالقطع، التنمية البشرية الشاملة.
ونختار اليوم التوقف أمام مؤشرات النصر فى معركة تخليص شبه جزيرة سيناء من الإرهاب، وضرب المتطرفين الذين تحصنوا لسنوات فى هذا الجزء الغالى من الأرض المصرية. وهو النصر الذى يضع أمام المصريين مسارا يجب ألا يتوقف، فقد استطاعوا بجدارة أن يواصلوا صناعة التاريخ، لأنهم ببساطة حافظوا على الإرث التاريخى لسيناء، خاصة شمالها ووسطها، تلك المناطق التى استغل فيها المتطرفون أوضاعا وظروفا مختلفة ليتحصنوا فيها، ليهددوا بها كل مصر، فانتشرت فى دروبها التنظيمات المسلحة التكفيرية وحلت محل أشجار الزيتون التى اقتلعت لتزرع بالإرهابيين وبكل أنواع المخدرات، وكان لغياب الخطة الممنهجة لإعادة دمج سيناء بالوادى تأثيره السحرى فى تحقيق أهدافهم، ثم كان لغزة دور مؤثر فى تحصين الإرهابيين بها، فاعتبروا أن هذه المنطقة الحيوية مجالا حيوياً لأنصار الفكر التكفيرى والباحثين عن سلخ جزء غالٍ من جسم الوطن، وهذا كان يعنى ضرب مصر بالكامل، وتهميش تأثيرها ومستقبلها. والمعركة التى تدور رحاها الآن لم تكن الأولى ولكن يبدو أنها ستكون الأخيرة، لأن ربط سيناء بالوطن تم عبر الأنفاق الأربعة الكبرى التى افتتحت، وستنتهى فى منتصف هذا العام، ليكتمل الربط، ونستطيع أن نعبر القناة بين شاطئيها فى عشر دقائق بأنفاق وكبارى علوية، وتطور اقتصادى وتعميرى مذهل، يضيف إلى تاريخ مصر الدولة الراسخة فى الشرق الأوسط سجلاً إضافياً، تفخر به الأجيال المعاصرة مع الأجيال السابقة التى حافظت على هذا التراث من العمل والرؤية الواضحة لمستقبل الوطن.
إن مسار العملية العسكرية التى اقتلعت فى مرحلتها الراهنة (الدواعش) بدأ بتصفية القاعدة، وما خلقته حماس، مروراً بالإخوان خلال فترة حكمهم، وبدأ بإزالة أكثر من خمسة آلاف عنصر تكفيرى مسلح، تم تدريبهم فى جبل الحلال وإزالة أكثر من خمسمائة نفق بأحجام وإمكانات مختلفة، تمت بمساعدة تلك العناصر المجرمة التكفيرية من تيار (التوحيد والجهاد)، وهم رؤوس حزبية لتيارات سياسية منتشرة فى تركيا وقطر ودول الخليج العربي، ومن (السلفية الجهادية) فى باكستان وفلسطين وأفغانستان والشيشان، وكانت قد أخذت زخماً كبيراً فى فترة الفوضى والاضطرابات ثم حكم الإخوان.. ثم محاولات تأسيس (الجيش الإسلامى الحر) التى بدأها الإخوان.
إن العملية الحربية الجديدة ستقتلع كل التنظيمات التى انتشرت فى ربوع سيناء وشمالها ووسطها كمرض سرطانى خبيث هدد جسم الوطن كله. وأعتقد أن التصور الشامل سينهض بسيناء، وبالتوازى مع تلك العمليات، ولن يتأخر طويلاً، فسيادة الجيش على أراضينا لن تغنى عن زراعتها بالنخيل والمصانع والبشر، ولا عن العمل وبناء المدن الجديدة، حتى نوقف كل العمليات الإرهابية التى تم استيرادها من الإرهاب المنتشر فى ربوع آسيا، وكان سيمر عبر مصر فى طريقه إلى ربوع إفريقيا، ويقف الآن عند حدود ليبيا لتفتح أمامنا جبهة جديدة تهدد مستقبلنا.
ونقول إن الأعقل أو الأشد حكمة من بيننا هو من يستعد للأسوأ، ولأن المعركة على حدودنا فى هذه المرحلة ستكون أصعب وأشد، فعلينا أن نتحسب لكل ما هو قادم، خاصة أن الإرهاب مازال يغازل تياراً فى الداخل وهو ليس بالقليل، ويتصور أن هؤلاء يحملون لهم شيئاً، وهو ما يجب أن نتحسب له، فنجفف منابع وثقافة الفكر المتطرف، وقد تأخرنا طويلا عن تجفيفها من حياتنا، ولن نكون بعيدين عن آثارها دون استئصالها بالكامل. ولدينا تجربة الألمان فى استئصال الفكر النازي، وتجريمه، ومنع عودته إلى المجتمع بقوة القانون، وقدرة مؤسسات الوطن، ورغبة الشعب.
وأعتقد أن هذه المعركة هى الأصعب والأشد، ولا نملك إلا أن ننتصر فيها، فمواردنا وقدرتنا الاقتصادية لا تتحمل معارك مشابهة كل عقد من الزمان. ويجب ألا تتوقف مناهضة الفكر المتطرف، انتظاراً لاستئصال الإرهابيين والانتصار الكامل، فهى معركة متواصلة دون توقف، ولكننا سننجح فى الانتصار فى كل المعارك، ببناء دولة قوية وشعب واعٍ، فنستكمل كل مقومات التنمية البشرية الشاملة وهى المعركة الأصعب، والتي، وإن كانت لها بداية، فليست لها نهاية.