نعلم أن جميع من يمارسون قيادة الاقتصاد في مصر الآن ممن يسمون الليبراليين وهي تسمية تخفي اللفظ الذي يجد نفورا لدي الناس وهو الرأسمالية. القائمون علي الاقتصاد يوعزون للحكومة بأنهم الأكثر فهما لحركة الاقتصاد في العالم وبالطبع وبدون جدل موسع فإن من يدعي ذلك يكون مخادعا لأن لا أحد في أي زمان أو أي مكان يحتكر الحقيقة والمعرفة الكاملة. هؤلاء الليبراليون أو الرأسماليون فاقوا في خروجهم علي المسئولية المجتمعية من كانوا في أيام الملكية قبل ثورة يوليو وبسياساتهم يعيدون مجتمع النصف في المائة ويهدرون طبقات اجتماعية هي عماد الدولة وأهمها الطبقة المتوسطة التي تواصل تآكلها بفعل السياسات الاقتصادية لهؤلاء الليبراليين.
الأسبوع الماضي وافق مجلس النواب علي أن يكون للقطاع الخاص حق المساهمة في شراء وإدارة السكك الحديدية في مصر! وهو أمر لو يعلم من أقدموا عليه عظيم الشأن بسلبياته، ولنتذكر أن انجلترا خالقة الرأسمالية وطليعتها رفضت حكومتها برئاسة مارجريت تاتشر خصخصة السكك الحديدية بها. وكانت سكك حديد مصر ثاني سكك حديدية في العالم بعد انجلترا واستمرت ملك الحكومة المصرية كاملة في عهد الخديوية والملكية والجمهورية ولم تبع للقطاع الخاص فهي مرفق استراتيجي مهم للأمن القومي وللمواطنين الذين ليس لديهم سبل أخري للسفر مئات الكيلومترات خاصة مواطني الصعيد الذين سيسددون الثمن غاليا.
المؤكد أن القائمين علي التشريع ليسوا مستقلين تماما وتحركهم النزعات الاقتصادية للوزراء والحكومة بينما (يفترض) أنهم جاءوا في انتخابات نزيهة بأصوات الشعب. ربما يحكم التاريخ علي كل من يشارك في مثل هذه التشريعات ولكن المؤكد أن أعضاء مجلس النواب (ولا أقول النواب..) تسكرهم خمر السلطة ولا يدركون مدي خطورة ما يفعلون فخصخصة السكك الحديدية أمر خطير ومؤشر علي أمور أخري قادمة وربما منها خصخصة مصر للطيران أو البنوك العامة والمطارات وكل ذلك لأن الاقتصاديين القائمين علي الأمر فشلوا في إيجاد حلول للمشكلة الاقتصادية.
لقد أصدر مجلس النواب الحالي عددا كبيرا من التشريعات بشكل غير مسبوق، ولا أعرف إن كان المجلس بلجانه قد درس كل تلك التشريعات جيدا أم أننا سنضطر للاستعانة بالمصطلح القديم المتداول من قبل وهو ( سلق القوانين ) الذي كان في مرحلة سابقة عنواناً لعملية التشريع باعتبار أن مجلس الشعب كان متهما بسلق التشريعات علي أساس حساب متوسط عدد الجلسات علي عدد التشريعات وكذلك علي أساس أهمية التشريع للمجتمع. والآن نري أن المجلس قد يصدر في جلسة واحدة عدة تشريعات، وأتحدث هنا كمحرر برلماني لجريدة الأخبار عشت في البرلمان ربع قرن ودارس للشئون البرلمانية يدرك آلية التشريع وما يحتاجه من دراسة وبحث داخل اللجان وعلي المستوي المجتمعي، وإذا طبقنا هذه المبادئ، فهل يحتاج المجتمع الآن لخصخصة السكك الحديدية فترتفع أسعار النقل بما لا يتحمله ولا يطيقه المواطنون المسافرون مئات الكيلومترات إلي بلادهم خاصة في الصعيد ! الغريب أن رئيس المجلس من أسوان ويعلم مدي ما يعانيه مواطنو الصعيد وهو نفسه كان يسأل بالاسم عن خالتي حليمة وخالي سلمان وغيرهما من أهلنا السمر في الجنوب.
كيف طاوعك قلبك يا دكتور علي عبد العال وساهمت في إصدار هذا التشريع ؟. إنها سكك حديد مصر وليست سكك حديد الأفراد وليست سكك حديد الرأسماليين الذين سيمتصون أموال الشعب. ربما كان من المقبول زيادة سعر التذكرة أو التصرف بطريقة ما لتوفير تكاليف النهوض بالمرفق المهم ولكن لم يجب أن يؤدي بنا الفشل في إدارة ثاني أقدم سكة حديد إلي خصخصتها. ربما يعلو صوت ويقول لم نخصخصها، وإنما سمحنا للقطاع الخاص بالمشاركة، وأقول له : هذا خداع، فالخصخصة قادمة وهي مسألة وقت ولقد شربنا من مثل هذه الأقاويل كثيرا ولنتذكر رسوم مصطفي حسين وتعليقات أحمد رجب عن حكومة عاطف صدقي والرزاز وعبارة (لا مساس.. لا مساس).. أو عبارات جلال أبو الدهب وزير التموين ( لا مساس برغيف العيش).. كلها عبارات لا تعني الحقيقة.