الوطن
خالد عكاشة
الألعاب الخشنة فى الفضاء السورى
فى أسبوع لم يبدأ بصباح السبت، الذى سقطت فيه الطائرة الإسرائيلية من طراز (F-16)، بصواريخ الدفاع الجوى السورى، حيث كانت هناك ثمة ملحقات سابقة عليه، وأخرى كثيرة تتجهّز كى تكون تالية حتماً، حتى يبدو كأنه أسبوع استثنائى يمتد لما يقارب الـ«عشرة أيام» أو يزيد قليلاً.

فما كان سابقاً عليه؛ هو الهجوم الذى نفّذته قوة مكونة من (500 مقاتل)، ووصفته حينها البيانات الأمريكية بـ«غير المبرر». تشكلت تلك القوة من خليط مثير مدجّج بأسلحة وعتاد نوعى، ضمّ مجموعة ميليشيات كوّنها ويشرف عليها عملياتياً «الحرس الثورى» الإيرانى، الأولى من مقاتلين أفغان تابعين لميليشيا «لواء فاطميون»، والثانية «لواء الباقر» المكون من عناصر محلية جنّدهم الحرس، فضلاً عن مقاتلين من «قوات الدفاع الوطنى» التابعة للنظام السورى، ويبقى المكون الأكثر إثارة، وهو «المقاتلون العسكريون الروس». وهم ليسوا تابعين لوحدات الجيش الروسى الموجود فى القواعد العسكرية بسوريا، بل عاملون هناك بموجب عقود خاصة فى صفوف ما ظهر تحت مسمى «مجموعة واجنر»!

هذا الهجوم للقوة «الهجين»؛ تقدّم ليتجاوز خط التماس المعتمد باتفاق (أمريكى - روسى) لما يُعرف بتجنّب المواجهة، فى هذه المنطقة الترسيم على الأرض حدّده بجانبى نهر الفرات. بدأ الهجوم بقصف مدفعى تجاه موقع عسكرى تابع لـ«قوات سوريا الديمقراطية»، فى الوقت الذى تقدّمت فيه مجموعة من القوة بآليات مدرّعة تستهدف السيطرة على «حقل نفطى»، يقع داخل عمق المنطقة الأمريكية الكردية بنحو 8كم شرق الفرات. اللافت ليس امتلاك القوة المهاجمة بطاريات مدفعية توفر «غطاءً نيرانياً» ثقيلاً فحسب، بل إن التوغّل استخدم فيه دبابات من نوع (T-72) و(T-55) الروسية. هذا استدعى رداً أمريكياً فورياً كاسحاً، بعد ساعات محدودة من بدء الهجوم، نفّذته مقاتلات (F-15) و(F-22) ومروحيات (أباتشى) وشاركتهم مدفعية «مشاة البحرية».

بعيداً عن استخدام الرد الأمريكى لقوة نيران هائلة، فإن منفذى الرد خرجوا من إحدى القواعد الأمريكية بالعراق، ولم يشارك القرار العسكرى بالتنفيذ أى من الوحدات الكردية المحلية التى يعاونها خبراء أمريكيون، بتلك المنطقة من محافظة «دير الزور». أوقع القصف المركز خسائر فادحة فى صفوف القوة المهاجمة، أدنى التقديرات ذكرت عدداً للقتلى قُدّر بـ«120 مقاتلاً». لكن الأهم وما تأكد أن ضمن هؤلاء ثلاثين جندياً سورياً من «قوات الدفاع الوطنى»، وعشرين مقاتلاً روسياً من «مجموعة واجنر». كما دمر فى الهجوم ذاته نحو عشرين مركبة، منها «9 دبابات» روسية. تم هذا فى ساعات؛ وتحت وطأة ما تكبّدته القوة المهاجمة من خسائر فادحة، انسحبت سريعاً إلى غرب الفرات خلف خط التماس المتفق عليه.

البعض فسّر عملية إسقاط المقاتلة الإسرائيلية (F-16)، باعتباره رداً إيرانياً على الهجوم الأمريكى الكاسح، على قوة تشكّلت بقرار من «الحرس الثورى»، بالنظر إلى ما جرى لاحقاً بعد «48 ساعة»، من تسيير طائرة من دون طيار إيرانية الصنع من طراز «سيمورج»، تمكنت من اختراق شمال شرق إسرائيل. حسب الرواية الإسرائيلية التى أفادت بوجود مروحية «أباتشى» فى مهمة تأمين روتينية على الشريط الحدودى، تمكنت من تحديد إطلاق الدرونز الإيرانية، من محطة تحكم أرضية متحركة، تقع فى قاعدة «التياس الجوية» السورية، بالقرب من تدمر. قبل أن تتمكن تلك المروحية من إسقاط الطائرة المسيرة، وبعدها لتبلغ غرفة عمليات «سلاح الجو الإسرائيلى» بإحداثيات موقع إطلاقها.

إثر هذا التحديد؛ خرجت 8 طائرات إسرائيلية بهدف قصف القاعدة السورية، فإذا بها تواجه حزمة مكثفة من صواريخ (SA-5)، أطلقتها الدفاعات الجوية السورية، تمكن إحداها من إسقاط المقاتلة الإسرائيلية، وأحدث آخر إصابة فى طائرة ثانية. وفق هذا النسق السريع المباغت، عُد تسيير الدرونز الإيرانية بمثابة «كمين» جوى لاستدراج الطائرات الإسرائيلية، إلى مجال منظومة الدفاع الجوى الجاهزة لتنفيذ مذبحة جوية، بحق سلاح الجو الإسرائيلى المنتظر وصوله فى الزمان والمكان، وهو ما نجح جزئياً إلى حدٍّ كبير.

المعلومات الاستخباراتية؛ التى لم تستبعد فرضية الفخ وحدّدت أن مركز الإطلاق المتحرّك تابع لـ«الحرس الثورى»، فرضت على إسرائيل القيام بعملية انتقامية للحفاظ على الهيبة، وتعزيزاً لمجالها الجوى المحصّن. نفذتها إسرائيل بعد «24 ساعة» بحق اثنى عشر هدفاً عسكرياً، شمل الدفاعات الجوية بالقرب من دمشق ودرعا، فضلاً عن ثلاثة مواقع عسكرية بها عسكريون إيرانيون.

آخرون لم يقفوا طويلاً أمام التصعيد الإسرائيلى - الإيرانى المتبادل، فهو مشهد يحتاج للصعود إلى أعلى قليلاً، لملاقاة لاعبين آخرين، حيث يمكن هنالك تفسير الأحداث على وجهها الصحيح. لم يطل الانتظار؛ حين ظهر أنه ليس هناك بد من كشف إحدى أوراق اللعب الخشن. فخرج إلى النور فجأة أنه يوجد فى سوريا مقاتلون روس، يعملون خارج نطاق الجيش الروسى بعقود خاصة، فى منظومة تشغيل عسكريين سابقين داخل ما يُسمى بـ«مجموعة واجنر». وهى اختصاراً نسخة روسية من نظيرتها الأمريكية «البلاك ووتر» الشهيرة، التى ظهرت فى العراق. جاء هذا الكشف الأمريكى - الإسرائيلى، ليصيب الكرملين بحرج بالغ، خصوصاً أنه الطرف المتعاقد مع تلك المجموعة، كى تنفذ عمليات عسكرية داخل سوريا، وظلت أمريكا وإسرائيل، باعتبارهما فى الموقع المقابل، يتفهمان أن «بوتين» لجأ لهذا منذ سنوات، كى يقلص خسائره البشرية فى صفوف الجيش الروسى، فضلاً عن طول المدة وتعقيد تفاصيل العمليات، يلزمه هذا النوع من المقاتلين خارج النطاق الرسمى لتنفيذ مهام بعينها، يمكن شراؤها بالمال بعيداً عن قيود واعتبارات وحدات الجيش القابعة خلف أسوار قاعدتى «الحميم، وطرطوس» الروسيتين.

ببعض من العمل الاستخباراتى اليسير فى موسكو، حمل عائلات وأمهات هؤلاء المقاتلين ليدقوا أبواب الكرملين، وليتحدّثوا بخجل ريفى أمام شاشات الإعلام، يسألون «بوتين» عن مصير أبنائهم الذين قتلوا فى سوريا. الأمر ما زال فى مشاهده الأولى، لكن الإجابة عن المصير أخرجت للنور مبدئياً، «مجموعة واجنر»، وهى لن تكون نهاية الألعاب الخشنة على أى حال.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف