مصر التي نحبها هي التي نراها في الأفلام »أبيض وأسود»، بشعبها الطيب، وأهالي الحارة ملوك الشهامة والكرامة والأخلاق، ولاحظوا الفرق بين محمد عبد الوهاب في فيلم »الوردة البيضا»، ومحمد رمضان في أي فيلم أو مسلسل، عظمة عبد الوهاب وهو ينطق لفظ »يا هانم» بصوته الحالم، وخرج شباب الجامعات بعد الفيلم، يضعون وردة بيضا في عروة الجاكت، ونفس تسريحة الشعر الخفيف، ويقلدوا كلمة »يا هانم» قبل أن يغازلوا الجميلات، بلغة راقية ومحترمة ورقيقة.
الله - علي أم كلثوم وهي تشدو »ولما أشوفك يروح مني الكلام وأنساه، وفرحة القلب ساعة ما التقيك وياه».. ولا عبد الوهاب وهو يفتت المشاعر »ليه بس ناح البلبل ليه فكرني بالوطن الغالي»، حتي عبد الحليم حافظ »خسارة خسارة فراقك يا جارة».. أما الجارة الآن فقد أصبحت مطمعاً لابن الجيران المنفلت، ولا يجيرها أحد من رذالته وقلة أدبه.
الله.. علي الشيخ محمد رفعت، الذي كنا نعلم بقدوم رمضان علي صوته، ولا الشيخ علي محمود والنقشبندي في تواشيح صلاة الفجر، والله.. ما أحلي »اللهم صلي ع النبي.. اللهم صلي علي حضرة النبي»، وأجمل ما قيل في إمام المنشدين الشيخ علي محمود أن »صوته من أسباب تعطيل المرور في الفضاء، لأن الطير السارح في السماء، يتوقف للاستماع لحلاوة صوته»، وقال هذا الكلام عنه العالم الأزهري الجليل عبد العزيز البشري.
بمناسبة الأزهر، ألم تلاحظوا أن الملحنين الكبار في الزمن الجميل كانوا يحملون لقب »شيخ»، مثل سلامة حجازي وزكريا أحمد وسيد مكاوي وأبو العلا محمد وعلي محمود وغيرهم، وأبدعوا في الموشحات الدينية، فناً مصرياً خالصاً، أضفي معاني البهجة والوقار والخشوع، وأعلي قيم الرحمة والمحبة والسلام، وجعل القلوب تهفو بالخير لذكر الله وحبيب الله، أو علي حد قول الشيخ الشعراوي »إنها مصر التي قال عنها رسول الله، إن أهلها في رباط إلي يوم القيامة، من يقول عن مصر إنها أمة كافرة، فمن المسلمون ومن المؤمنون؟، مصر التي صدرت علم الإسلام إلي الدنيا كلها، صدرته حتي للبلد الذي نزل فيه الإسلام».
الله عليكي يا مصر.. أما الآن فقد تغيرت السلوكيات وانفتحت بالوعات »الطفح الأخلاقي»، وانتشرت فيها جرائم يشيب لها الولدان، وانتشرت مظاهر القسوة والعنف والألم البالغ.. وتصدر الصفوف بعض دعاة التدين الشكلي، البعيد تماماً عن جوهر الإسلام ومبادئه السامية، ورسالة نبيه الكريم الذي قال »إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وحين فتحت مصر قلبها وروحها وعقلها للإسلام، اختار شعبها الجوهر الصحيح، وتعظيم معاني السلام والتعايش والبهجة، وجعلوا الأعياد فرحاً وسروراً، يحتفلون فيها بالزينات ويتواصلون بالطعام والشراب وتبادل التهنئة.
تغيرت السلوكيات إلي الأسوأ، وانهار التعاطف الإنساني، وتراجعت المبادئ والقيم، وانفجرت بالوعات »التلوث الأخلاقي»، ويخيل إلينا أحياناً أن مصر الآن ليست هي مصر التي نعرفها ولا نراها إلا في أفلام »أبيض وأسود»، ونحن الآن في أمس الحاجة لاستعادتها واستردادها، فهذا ليس شعبها الطيب، الذي يجتمع علي »المرة» قبل» »الحلوة».