الأهرام
جمال عبد الجواد
الثورة المشئومة
تحل فى فبراير من كل عام ذكرى انتصار الثورة الإسلامية فى إيران. لقد غيرت الثورة الإيرانية وجه الشرق الأوسط كلية، فمنذ وصل مشايخ الشيعة للحكم فى هذا البلد الرئيسي، فإن الشرق الأوسط لم يعرف معنى الاستقرار أو السلام، وفى كل عام تتيح لنا ذكرى ثورة إيران المشؤومة فرصة جديدة لتحليل هذا الحدث الكبير ونتائجه شديدة الخطورة.

الثورة الفرنسية هى أولى ثورات العصر الحديث، وقد تبعها العشرات من الثورات فى أنحاء العالم المختلفة. ومنذ وقعت الثورة الفرنسية، وعلماء الاجتماع والسياسة منشغلين بدراسة الثورات، أسبابها ومساراتها ونتائجها. لقد توصلت الدراسات التى أجراها هؤلاء إلى أن الثورة قد تحدث نتيجة لهزيمة عسكرية قاسية، مثلما حدث فى الثورة الروسية؛ أو بسبب أزمة مالية خانقة، كما حدث فى الثورة الفرنسية؛ أو تحت وطأة انتفاضة فلاحية كبرى، كما حدث فى الثورة الصينية؛ أو بسبب تمرد الجيش، كما حدث فى الثورة البرتغالية.

شيء من هذا لم يحدث فى الثورة الإيرانية، على العكس، فقد وقعت الثورة فى إيران حينما كان هذا البلد يمر بفترة ازدهار اقتصادى نتيجة العائدات المالية الكبيرة التى حصل عليها بعد الارتفاع الكبير فى أسعار النفط نتيجة لحرب أكتوبر وحظر تصدير النفط العربي. كما أن الثورة الإيرانية حدثت بعد سنوات قليلة من قيام حكومة الشاه بتطبيق سياسات إصلاح اجتماعى عميقة، أطلقت عليها الثورة البيضاء، كان حجر الأساس فيها هو إجراء إصلاح زراعى لمصلحة الفلاحين الفقراء. بالإضافة إلى ذلك فقد سقط الشاه رغم التنازلات الكثيرة التى قدمها للمعارضة عند أكثر من منعطف طوال موسم الاحتجاجات الطويل الذى انتهى بسقوطه، بحيث بدا الأمر كما لو كانت الثورة الإيرانية حالة شاذة، أو استثناء فريدا، ضمن ما هو معروف من أنماط الثورة وأسبابها.

لقد تواصلت أحداث التصعيد الثورى فى إيران منذ وقع أول الاحتجاجات فى أكتوبر 1977، وحتى السقوط التام لحكم الشاه محمد رضا بهلوى فى الحادى عشر من فبراير عام 1979. حدث هذا قبل 39 عاما من وقتنا هذا، وانتصرت الثورة يوم 11 فبراير وهو نفس اليوم الذى شهد انتهاء حكم الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك قبل سبعة أعوام، فى مصادفة تدعونا للتفكير مجددا فى ثورة إيران، مغزاها ومعناها وصلتها بنا.

لقد غيرت الثورة الإيرانية وجه الشرق الأوسط من عدة أوجه. لقد جعلت التطورات فى إيران من الثورة فعلا ممكنا وأحد الاحتمالات الممكنة لمسار الأمور فى المنطقة. قبل الثوة الإيرانية تحدث مثقفو الشرق الأوسط وكتبوا كثيرا عن الثورة، لكنهم لم يمارسوا الثورة بشكل فعلى إلا نادرا. صحيح أن تاريخ بلاد الشرق الأوسط الحديث هو تاريخ من الاضطراب الدائم، لكنه تاريخ لا يمكن وصفه بالتاريخ الثوري، فالتطورات التى اعتبرناها ثورات لم تكن سوى انقلابات عسكرية قام بها ضباط ذوو انتماءات أيديولوجية راديكالية.

لقد غيرت الثورة الإيرانية كل هذا، وجعلت من الثورة الشعبية احتمالا قابلا للتحقق، فألهمت أجيالا من العناصر الغاضبة فى بلاد الشرق الأوسط المختلفة، وأسهمت فى إدخال المنطقة فى موجة جديدة من عدم الاستقرار. لقد حرم الاضطراب ـ الذى أطلقته الثورة الإيرانية فى الشرق الأوسط ـ المنطقة من فرصة كانت سانحة لنمو تيارات الإصلاح بعد مرحلة سادت فيها ثورات الضباط القوميين والاشتراكيين، فضاعت على الشرق الأوسط فرصة الفوز بإصلاح اجتماعى وسياسى تدريجى ممتد، بدلا من الاضطرابات الثورية التى مازالت المنطقة تدفع ثمنا فادحا لها.

حتى قيام الثورة الإيرانية كانت حكومات الشرق الأوسط والمثقفين المعارضين فيه كل على طريقته يجاهدون من أجل تكييف أوضاع المنطقة للاندماج فى عالم الحداثة ذى المنشأ الغربي. فمنذ مطلع القرن التاسع عشر، ومع موجة الإصلاحات العميقة التى شهدتها بلاد الشرق الأوسط، خاصة مصر وتركيا، راحت المنطقة تنفض عن نفسها غبار القرون الوسطى ذا الطابع الإمبراطورى والديني، وراحت تتلمس طريقها نحو القومية والدولة الوطنية والديمقراطية والعلمانية وتحرير المرأة. فطوال قرنين من الزمان حاولت دول وشعوب الشرق الأوسط كنس مخلفات العصور الوسطى، حتى جاءت الثورة الإيرانية، وكنست بعيدا كل ما تسرب للمنطقة من منجزات الحداثة، وأعادت إلى البيت الشرق أوسطى كل مخلفات القرون الوسطى التى كنا نظن أننا قد تخلصنا منها.

لقد ألقت الثورة الإيرانية بشكوك وظلال كثيفة على واقع المنطقة ومستقبلها. فالثورة الإيرانية هى أول ثورة شعبية حقيقية تشهدها المنطقة ضد حكام من المواطنين وليس ضد الاستعمار الأجنبي. لقد وقعت الثورة الإيرانية بعد مائتى عام من الثورة الفرنسية، أولى ثورات العصر الحديث، وهكذا تكون الثورة الإيرانية قد أدخلت المنطقة ضمن التاريخ الثورى للعالم، لكن مع فارق مهم، فحين كانت الثورة الفرنسية بداية لمرحلة تاريخية جديدة من الحداثة والتحرر الإنسانى من سلطات العصور الوسطى الاستبدادية والكهنوتية، فإن الثورة الإيرانية أسست لنظام سلطوى كهنوتي، وهو النظام الذى حاول الثوريون من الإسلاميين السنة إعادة إنتاجه فى بلادهم، وكأن شعوب الشرق الأوسط لا تثور إلا من أجل وضع قيود أكثر إحكاما فى معاصمها، أو من أجل إقامة أنظمة أكثر توحشا واستبدادا.

لقد عززت الثورة الإيرانية الاعتقاد فى «الاستثناء الشرق أوسطي»، أو لنكن أكثر صراحة ولنسمه «الاستثناء الإسلامي». ففيما تقدم العالم طوال الأربعين عاما الأخيرة فى اتجاه المزيد من الحرية والديمقراطية، كانت شعوب الشرق الأوسط المسلمة، بأثر من القوى التى أطلقتها الثورة الإيرانية، تسير فى اتجاه معاكس نحو تثبيت الاستبداد الديني، أو حماية نفسها من هذا المصير عبر اللجوء لاستبداد وطني، فهل من مخرج من هذا المأزق التاريخى؟.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف