الأهرام
د/ شوقى علام
تطبيق الشريعة .. (1) مفهوم الشريعة
اتخذ أهل التطرف والتشدد من مبدئهم الفكرى “التحاكم إلى القوانين الوضعية” المنطوى تحت ما أسموه “نواقض الإسلام” نقطة بعث لإثارة جدل متكرر وبث صراع دائر بين أفراد المجتمعات الإسلاميَّة وتياراتها المتنوعة من خلال تصوراتهم القاصرة وأفكارهم المشوهة لمفهوم “الشريعة الإسلامية” وكيفية إنزال مقاصدها وأحكامها على واقع الناس والعصر حتى شكَّل موضوع “تحكيم الشريعة” قضية رأى عام لدى الأمة عبر عقود متتالية.
وتطلق كلمة “الشريعة” على ما أنزله الله تعالى لعباده من أمور الدين وأحكامه كما فى قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: “ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ”[الجاثية: 18]، وقد سُميت الشريعة بذلك؛ تشبيهًا بشريعة الماء؛ لكونها تمثل المورد الذى يتردد إليه الناس لينهلوا منه معارفهم الدينية والأحكام التى كَلَّفهم الله تعالى بها، ثم تطور هذا المفهوم فى الاصطلاح حتى أصبح يشمل الأحكام الشرعيَّة العملية، ثم استخدم بعد ذلك مقابلًا لمصطلح القانون الوضعي.
وكلمة “الشريعة” لها مدلول واسع جامع يشمل العبادات والمعاملات والقيم والأخلاق وأحكام العادات.. إلخ، ومن ثَّم تكشف هذه المعانى والدلالات عن اختزال هذه الجماعات الموازية لهذا المفهوم من أجل تثبيت مقولاتهم بـ”ضلال الأمة”، وتبرير إعلان الخروج على نظام مجتمعاتها الراسخ تحت مزاعم “غربة الإسلام” و”جاهلية أهله”، من خلال التشبث بصورة نمطية ضيقة ألصقها هؤلاء بهذا المفهوم سواء كان ذلك بمظاهر شكلية كاللباس وغيره أو اجترار مسائل الماضى الصالحة لزمانها بسياقاته وملابساته، أو بانحصاره فى الجانب الجزائى العقابي، فضلا عن رفع شعارات تحمل ظلالًا مشككة حتى يسهل كسب تعاطف العامة واستقطابهم، كما أنهم أضافوا إلى مظاهر الخلل السابقة والمتنوعة بُعدًا آخر مثَّل خطورة كبيرة على بنيان الإسلام ومناهجه المتوارثة عبر أجياله كابرًا عن كابر، حيث جعلوا الأحكام الشرعيَّة والتصرفات النبوية نمطًا واحدًا على صورة القطعية التى لا يتصور معها أن تحمل وجوهًا عدة نتيجة اختلاف أهل التخصص من المجتهدين، ولكلٍّ وجهةٌ. والإنصاف أن هناك فارقًا كبيرًا بين الدعوى والحقيقة، فشريعة الإسلام لم تغب عن واقع المسلمين يومًا عبر تاريخهم منذ بعثة النبى صلى الله عليه وسلم (رمضان 13 قبل الهجرة/ يولية -أغسطس 610م) حتى يوم الناس هذا، لا بأحكامها القطعية الثابتة، والتى لا يجوز الخلاف حولها، ولا بأحكامها الظنية التى يتوقف العلم بها على النظر والاستدلال مما يستقل المجتهدون بمعرفته؛ امتثالًا لقوله صلى الله عليه وسلم: “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر”.
وفى هذا رفع الحرج عن الأمة فى طلب الاجتهاد والحرص على استمرار بابه مفتوحًا؛ لأن المقصود بالصواب هو صواب العمل الذى يصلح لتأسيس التصرفات عليه، لا صواب مضمون الحكم باعتبار ما عند الله تعالى؛ فإنه أمر عسير جدًّا. وتتجلى من تلك المعانى الراقية لمفهوم “الشريعة” كم أنه يتسم بالمرونة، حيث الانطلاق من القواعد الشرعيَّة الكلية والاهتمام بترسيخ القيم والمبادئ العامة الثابتة، مع توجيه العلماء وأهل الاجتهاد والنظر لفحص المسائل والحوادث الجزئية فى إطار هذه القواعد والمبادئ، مع العناية بتربية الملكات العلمية فى المجالات المختلفة والتأكيد على ضرورة توسيع مساحة العقل البشرى نحو الإفادة من التطوُّر المستمر الدائب فى التجارب الإنسانية وفق الأولويات والمقاصد، سعيًا إلى إتاحة المجال للتعددية والتنوع واحترام الحريات والحقوق.
وبذلك يظهر مفهوم “الشريعة” بمعانيه الجامعة التى جرت عليها الأمة فى تناسق حكيم مع العالم الذى يعيش فيه أفرادها بمخلوقاته المتنوعة وأنماطه المختلفة على نحو مبهر، وبين المعانى القاصرة الملتبسة التى يختزل من خلالها أهل التطرف والتشدد هذا المفهوم لتبرير أفعالهم الإجرامية واستقطاب مزيد من الأتباع مع إشاعة الفرقة والخصومة بين أبناء الأمة وطبقاتها تحت شعار “تطبيق الشريعة” والذى سنتناول موضوعاته فى هذه السلسلة من المقالات.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف