الأهرام
د. سليمان عبد المنعم
خطوات بطيئة لتحديات تشريعية متسارعة
لا أحد ينكر أن هناك تشريعات مهمة صدرت عن مجلس النواب الحالى، لكن فى المقابل ثمة غياب ملحوظ لأولويات تشريعية ملحّة، وهو غياب تواصل لفترة طويلة سابقة على المجلس الحالى. سأتخيّر هنا أربعة أمثلة محدّدة لأولويات تشريعية جديرة بأن توصف بكل نعوت الإلحاح والأهمية والضرورة، وبرغم ذلك فما زال خطونا التشريعى بشأنها يمضى بطيئاً وئيداً بخلاف تشريعات أخرى تصدر أحياناً بسرعة الصوت! أبادر بتحديد هذه الأمثلة فى الجرائم الإلكترونية، وتسليم الأشخاص المطلوبين جنائياً، وتنظيم الاعلام الإلكترونى، وحماية المستهلك. ولعلّها مصادفة أن أشرف فى كلية حقوق الإسكندرية على ثلاث أطروحات دكتوراه لباحثين عرب من الإمارات والكويت وقطر فى ثلاثة موضوعات تنظمها تشريعات عصرية حديثة فى هذه الدول لا يقابلها تشريع مصرى! إحدى هذه الأطروحات لباحثة إماراتية مجتهدة تبحث فى ظاهرة الجرائم المرتكبة عبر وسائل التواصل الاجتماعى، وهى ظاهرة تستشرى وتتفاقم إلى درجة دعت بعض زعماء الدول الأوروبية إلى الاجتماع مع رؤساء شركات بعض هذه المنصات مثل Facebook وغيرها على هامش الاجتماع السنوى للجمعية العامة للأمم المتحدة فى نيويورك فى سبتمبر الماضى لبحث كيفية معالجة استغلال هذه المنصات الإعلامية فى الدعوة إلى التحريض والعنف والكراهية. لا يخفى على أحد أن الجماعات الإرهابية مثل داعش وغيرها قد وجدت فى هذه المنصات الإلكترونية حصان «طروادة» الجديد المستخدم فى الاختراق والتجنيد والتواصل التنظيمى، بل إن أفراداً عاديين يستخدمون اليوم هذه المنصات الإلكترونية لارتكاب أنواع شتى من الجرائم وليس التحريض على العنف أو الإرهاب فقط. نحن فى مصر والعالم كله نواجه اليوم إشكالية ما يُعرف بالأمن «السيبرانى» وهى إشكالية دقيقة تتفاوت مواقف دول العالم منها، ولم يتبلور بعد موقف الشركات العالمية الكبرى صاحبة هذه المنصات الإلكترونية، ومدى استعدادها لتغيير سياسات استخدام منصاتها على نحو يحقّق التوازن الدقيق بين متطلبات مكافحة الاستخدام غير المشروع لها ومقتضيات الخصوصية وحريات الرأى والتعبير.

إحدى إشكاليات الأمن «السيبرانى» التى تستحق حديثاً منفرداً أن الكثير من الأفعال الخطيرة المرتكبة عبر المنصات الإلكترونية يمكن اعتبارها بالطبع جرائم تعاقب عليها القوانين المحلية، لكن منها ما قد يفلت من إطار التجريم المحلى التقليدى لأسباب متنوعة، ومنها ما قد تصعب ملاحقة فاعليه نظراً لخصوصية وسيلة ارتكاب الجريمة وحيل التمويه والأسماء الوهمية التى يتخفى وراءها مرتكبو هذه النوعية من الجرائم، ومنها أخيراً ما يتعلق بافتقاد نظام إجرائى ذكى وعصرى لملاحقة هؤلاء المجرمين الإلكترونيين لا سيّما وهذه الجرائم تقع فى فضاء إلكترونى عابر للحدود. مازالت هذه المسائل غائبة عن اهتمامنا بينما دولة مثل الإمارات العربية لديها تشريع لمكافحة الجرائم الإلكترونية منذ 2006 والكويت أيضاً، وكذلك معظم دول العالم. والإجرام «السيبرانى» لا يتماهى كما يعتقد البعض مع حريات الفكر والرأى ولكنه يشمل مروحة واسعة من الجرائم مثل الاتجار بالبشروالاستغلال الجنسى للأطفال وجرائم الاحتيال المالى وانتهاك الخصوصية.

المثال الثانى الذى يعكس بدوره أولويةً تشريعية غائبة سبق أن كتبت عنها مراراً أن منظومتنا القانونية ما زالت تفتقر حتى اللحظة إلى تشريع محلى لتسليم الأشخاص المطلوبين جنائياً وذلك فى إطار مواجهة الجرائم المنظمة عبر الوطنية والجرائم الإرهابية العابرة للحدود. هذا تشريع يوجد اليوم فى الأكثرية الساحقة من دول العالم بما فيها الدول العربية، وهو يمثل اساساً قانونياً لكى تطالب مصر مثلاً دولة أخرى بتسليمها أحد الأشخاص الموجودين على إقليمها ممن ينعقد لمصر ولاية محاكمتهم أو تنفيذ الأحكام الصادرة ضدهم إذا توافرت بالطبع شروط معينة. قد يرى البعض أنه يحق لمصر أن تطالب بالاسترداد وفقاً لاتفاقيات دولية ثنائية أو جماعية ترتبط بها الدولتان، أو بموجب اتفاقات خاصة أخرى، أو المعاملة بالمثل، لكن يظل وجود تشريع محلى مصرى أمراً يضفى أساساً قانونياً إضافياً ومهماً لطلبات التسليم الموجهة إلى الدول الأخرى. كان وما زال يجب أن نبادر إلى إصدار مثل هذا التشريع أو بالحد الأدنى نسارع إلى إدراج أحكامه ضمن التعديلات المقترحة حالياً فى قانون الإجراءات الجنائية المزمع صدوره قريباً. أما المثال الثالث فيتعلق بالتنظيم القانونى للإعلام الإلكترونى والمرئى، وهذا موضوع إشرافى على أطروحة دكتوراه يعدها أحد شباب القضاة النابهين فى دولة الكويت التى أصدرت فى عام 2016 تشريعاً ينظم هذا الموضوع. وبالرغم من أن التنظيم القانونى لهذا الموضوع محفوف بمحاذير تقييد الحريات الإعلامية ويترقبه البعض فى ريبة وشك فهو ضرورى لتصويب مشهد الإعلام الإلكترونى والمرئى فى فضاء السماوات المفتوحة وهو يضج بالفوضى والإساءات وانتهاك الخصوصية من ناحية والتحريض على العنف من ناحية أخرى.

مثال أخير يتعلق بحماية المستهلك والذى يوجد مشروع قانون بشأنه راجعه مجلس الدولة منذ تسعة أشهر ومازال مجلس النواب يتلكأ فى إصداره. فقد أثبتت التجربة أننا نحتاج إلى قانون عصرى جديد يحل محل القانون الحالى الصادر فى 2006. ما توافر من معلومات حول مشروع القانون الجديد مثير للاهتمام ويعكس رغبةً من الحكومة لوضع حدٍ لفوضى الأسواق فى مصر. لكن الرغبة وحدها لا تكفى لفرض انضباط الأسواق وردع الضمائر المعطوبة والنفوس الجشعة مهما جاءت النصوص مُحكمة والجزاءات قاسية. ما يلزمنا ابتداء وانتهاء هو أن يتضمن القانون آليات للرقابة على الأسواق تعمل ليل نهار، وآليات الرقابة تحتاج إلى موظفين يتسمون بالكفاءة والنزاهة لأنهما شفرة الرقابة على الأسواق. فاعلية قانون حماية المستهلك تتطلب أيضاً منظومة من الجزاءات الذكّية. وأهم ما يميز هذه الجزاءات فى مخالفات انتاج وتداول وبيع السلع والخدمات أن تكون من جنس المخالفة ذاتها، وهذا لا يتحّقق بالعقوبات السالبة للحرية ولكن بعقوبات وتدابير مالية، نعم مالية، فلا يردع الجشع أكثر من أن تحرمه من ثمار جشعه.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف