المصريون
جمال سلطان
القوى الوطنية المصرية ومأساة سوريا
خطر كبير أن تعيش في عزلة عن محيطك الإنساني ، خاصة إذا كان هذا المحيط يتصل بك بصلات القربى في التاريخ والتجربة والهوية والمصير ، ليس فقط لأن هذه العزلة تجعلك تخسر التعايش مع تجربة إنسانية تضيف إلى رصيد خبراتك السياسية ورؤيتك للمستقبل ، وإنما أيضا على المستوى الأخلاقي ، الذي يفترض أن يكون له الصدارة في اهتمامات النخب المدنية والوطنية المهتمة بقضايا الحريات العامة وكرامة الشعوب واستنبات الديمقراطية في تلك الأرض العربية القاسية .
رياح الربيع العربي هبت على دمشق كما هبت على القاهرة بعد تونس ، وقد مرت ثورة يناير في مصر بسلام عندما تمكنت الحشود الجماهيرية الضخمة من إجبار مبارك على التنحي ، خاصة بعد انحياز المجلس العسكري للشعب في ثورته ، وكان هذا الموقف السريع نسبيا سببا في حقن دماء كثيرة في مصر ، غير أن الوضع في سوريا كان مختلفا ، عندما نزل الشبان من طلبة الجامعات والمدارس في الميادين فجأة يهتفون : "بدنا حرية" ، ويغنون للحرية والانعتاق بأغاني جميلة وعذبة يمكن الرجوع إليها على شبكة الانترنت لمن يحب ، مفعمين بروح الربيع العربي التي هبت على المنطقة فأحيت أشواق الشعوب للحرية والعدالة والكرامة ، غير أن الظروف في سوريا كانت جد مختلفة عن مصر ، لأن الجيش السوري مؤسس على أبعاد طائفية ، بعد الانقلاب العسكري الذي قام به الضابط العلوي حافظ الأسد عام 1970 ، فقام خلال ساعات قليلة بتسريح جميع القيادات العسكرية من الطائفة السنية التي تمثل غالبية الشعب السوري ، وكانت لديه قوائم كاملة معدة سلفا كما تبين ، ثم أعاد تشكيل أجهزة السيطرة الأمنية والمخابرات ووضع في قيادتها عناصر تابعة له خاصة من الطائفة العلوية ، وأصبحت سوريا تحت تلك القبضة الطائفية ، وعندما مات حافظ ، وكان بشار ابنه صغير السن لم يصل إلى السن القانوني الذي يسمح له بتولي رئاسة الجمهورية ، قامت الطائفة بتعديل دستور البلاد خلال نصف ساعة لكي ينص على تعديل سن المرشح للرئاسة ، بحيث يكون على مقاس الشاب بشار حافظ الأسد ، وهكذا تم نقل السلطة من الأب للإبن ، حفاظا على نفوذ الطائفة وسيطرتها الاقتصادية والعسكرية والأمنية والإعلامية .
سوريا كانت تعرف منظومة قمعية استخباراتية رهيبة ، من أسوأ ما عرفته بلاد العرب ، وهناك قصص منشورة وموثقة تشيب لهولها الولدان عن الفظاعات التي ارتكبها حافظ الأسد وابنه من بعده ، وشهادات عما كان يحدث في المعتقلات ووقائع التعذيب المروع ، وسحق أي تفكير ـ مجرد تفكير ـ في ممارسة المعارضة السياسية للنظام ، فلما قامت ثورة الشعب السوري ضمن رياح الربيع العربي ، واجهها بشار بقوة السلاح ، ونزلت الدبابات تواجه الصدور العارية ، وزخات الرصاص تسكت أغاني الشباب ، واتسع نطاق الدم ، فكان أن وقعت انشقاقات في الرتب العسكرية الصغيرة والمتوسطة ، والتي تدرك أن الجيش ليس وطنيا وإنما هو جيش طائفي ، وأنه لا يعمل لحساب الشعب السوري وإنما لحساب قادة الطائفة العلوية ، ومن هنا بدأ انقسام الجيش وظهور الجيش السوري الحر ، الذي يمثل ذراعا عسكريا للمعارضة ، وانضم له بسرعة مدهشة عشرات الآلاف من الضباط والجنود ، بخلاف شبان آخرين ، وأوشكت هذه الانتفاضة على إنهاء الأمر ، وحاصرت العاصمة دمشق ومطارها وأصبح سقوط بشار قاب قوسين أو أدنى ، فهنا قام بحركتين أثرتا بشكل عميق على مجريات الثورة السورية ، الأولى أنه أطلق قيادات الجماعات المتطرفة من سجونه وسمح بدخول شركائهم من شمال العراق ، لتتأسس جماعات إرهابية خطيرة مثل داعش والنصرة ، كانت معاركها الأهم والكبرى ضد المعارضة وثوار سوريا ، وانسحب بشار أمامهم في أكثر من مدينة ليمارسوا فيها أعمالا همجية أساءت للثورة أمام المجتمع الدولي ، وأظهرتها وكأنها ثورة داعش والتطرف الديني ، في الوقت نفسه قام باستدعاء حلفائه الإيرانيين ، الذين حشدوا له قوات إيرانية من الحرس الثوري الإيراني ، إضافة إلى تكليفهم لتنظيم "حزب الله" الشيعي اللبناني الموالي لهم بإرسال مقاتليه لنجدة بشار ، مع حشد ميليشيات شيعية أخرى متنوعة من العراق وأفغانستان ، فلما فشل هؤلاء جميعا في هزيمة الثورة السورية ، رغم كل البلاء الذي أحدثوه ، لجأ أخيرا إلى روسيا التي أرسلت حاملات الطائرات وأسست معسكرات ضخمة على الساحل السوري ، واستقدمت أحدث ترسانتها العسكرية من طائرات وذخيرة لتجربتها على الشعب السوري ، فتغيرت الأمور عسكريا ، وزاد البلاء على الشعب السوري .
في الحالة السورية تفاصيل كثيرة ، ولكنا وصلنا اليوم إلى تلك المأساة التي هيجت ضمير العالم كله الآن ، مأساة الغوطة الشرقية في محيط العاصمة دمشق ، التي كشفت حجم الوحشية التي يمارسها ديكتاتور مثل بشار ، يسوي الأرض بشعبه ، بمدنه وناسه وحجره وشجره ونسائه وأطفاله وشيوخه وشبابه سواء ، حمم من الجحيم تصب على الأطفال والنساء على مدار الساعة بل الدقيقة ، ومشاهد وصفها الإعلام الغربي نفسه بأنها أهوال يوم القيامة .
عندما أتجول في مقالات النخبة المصرية ، أو في حساباتهم على مواقع التواصل ، أو أي حوارات لهم ، أرى غيابا شبه كامل عن رؤية ما يحدث في سوريا ، وكأن هذا الشعب المسكين أخطأ عندما حلم بالحرية ، وكأن هذا الشعب الذي شرد بشار الأسد نصفه تقريبا الآن ، وقتل نصف مليون آخرين ، كأنه ينتمي إلى تاريخ وحضارة وهوية أخرى ، غير تلك التي تنتمي إليها مصر ، ثورة سوريا وشعبها بحاجة إلى تضامن حقيقي وجاد من القوى الوطنية المصرية ، بل إن الضمير الوطني المصري نفسه في حاجة إلى التضامن مع الشعب السوري ضد هذا الطاغية الذي لم يشهد العالم مثيلا له خلال نصف القرن الأخير بكامله ، القوى الوطنية المصرية التي تحزن عندما يتجاهل العالم آلامها ومتاعبها ، وهي متاعب لا تصل لواحد في المائة مما يحدث للشعب السوري ، من واجبها أن يكون لها التزامها الأخلاقي في الدعم النفسي والمعنوي والسياسي والإعلامي لثورة الشعب السوري ، لا يصح أن يعاقب أهل سوريا لأنهم هتفوا يوما ما : "بدنا حرية" ، ولا يصح أن نخذلهم في تلك اللحظة التي سيسجلها التاريخ علينا ، سلبا أو إيجابا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف