لم يتوقف عند حدود ومواقع الأقطار. أو مساحات المحيطات وأعماق البحار. أو ارتفاع الجبال وأطوال الأنهار. أو سرعة الرياح وكميات الأمطار. بل أضاف إليها حركة الإنسان بين الزمان والمكان. فنجح في قراءة المستقبل وكشف الأسرار.
أثري المكتبة العربية بباقة من الكتب النادرة وخص سيناء بواحد من هذه الأشعار. أدرك أن التخصص لا يقتصر علي نطاقه المحدود. ولكن يمتد إلي كل الطرق الداخلة إليه ومن أين أتت. والخارجة من وإلي أين تنتهي.
يوافق العام الحالي "2018" ذكري مرور 90 عاماً علي ميلاده. و25 عاماً علي رحيله. طليعة الجغرافيين والمؤرخين والمفكرين والباحثين الأكاديميين.
* د.جمال حمدان 1928 ــ 1993.. جمال محمود صالح حمدان من مواليد قرية ناي ــ قليوب ــ القليوبية. في 4 فبراير 1928 وتوفي 16 أبريل 1993. والده مدرس لغة عربية أرسله لحفظ القرآن الكريم وتجويده مما أعطاه طلاقة في الكلم. وفصاحة في اللسان.
حصل علي الشهادة الابتدائية من مدرسة شبرا 1939 والتوجيهية "الثانوية" من المدرسة التوفيقية 1944. وكان السادس علي القطر المصري.
التحق بكلية الآداب. جامعة القاهرة. قسم الجغرافيا 1945. وتخرج بتقدير ممتاز 1948. وعين معيداً. وسافر إلي بريطانيا في بعثة 1949. وحصل علي الدكتوراه 1953 وكان موضوع الرسالة: سكان الدلتا قديماً وحديثاً جذب الأنظار بجده واجتهاده ومنهجه الذي ربط فيه الجغرافيا بالتاريخ والاجتماع وعلم الإنسان "انتربولوجي". بالإضافة إلي معرفته الموسوعية وثقافته الأدبية.
بدأ رحلته العلمية بثلاثة كتب نال عنها جائزة الدولة التشجيعية 1959. "وعمره 31 سنة" جغرافيا المدن ــ الظاهرة الجغرافية لمجموعة مدينة الخرطوم "العاصمة المثلثة". وتتكون من الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري.
دراسة عن العالم العربي.
استقال من الجامعة 1963 لتخطيه في الترقية إلي درجة أستاذ. تفرغ للبحث العلمي "30 عاماً" ــ لم يتزوج. ورفض جميع العروض للعمل في الداخل والدول العربية. وواصل مهمته ورسالته ــ كتب 39 كتاباً. و89 بحثاً من أشهر كتبه: شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان. وهو مرجع شامل لجغرافية مصر وحضارتها وثرواتها ونيلها وموقعها الفريد ومستقبلها.
من كتبه المهمة:
سيناء في الاستراتيجية والسياسة والجغرافيا. وصف سيناء بأنها أطول سجل عسكري معروف في التاريخ.
بوابة مصر الشرقية التي دارت علي أرضها معظم المعارك. وحلقة الوصل بين أفريقيا وآسيا. وطريقها إلي الشام.
يضيف الباحث الكبير: أن مصر هي صاحبة أطول سجل حضاري في التاريخ. والتبعية فإن سيناء هي صاحبة أطول سجل عسكري منذ فجر الزمان.
يشير إلي أن سيناء بأكملها. تمثل وحدة جغرافية واستراتيجية واحدة لكل جزء منها قيمته الاستراتيجية الحيوية.
تحدث عن الجزء الشمالي منها. ذات الطبيعة السهلة "الممر الرئيسي" وأيضاً عن الجزء الجنوبي بطبيعته الجبلية.
قال: إن شرم الشيخ بصفة خاصة هي المفتاح الاستراتيجي لمثلث سيناء الجنوبي.
قال حمدان: إن سيناء ليست صندوقاً من الرمال كما يظن البعض. لكنها صندوق من الذهب بثرواتها وموقعها. وأكد علي أهمية تعميرها كحل وحيد لحمايتها من الطامعين.
كان الدكتور جمال حمدان من المنتجين للعلم يضيف إليه ويصل إلي النتائج عبر المقدمات تنبأ بتفكيك الكتلة الشرقية في أواخر الستينيات وحدث ذلك بعد 20 عاماً. بل تفكك الاتحاد السوفيتي نفسه 1991.
كما تنبأ بالحشد الغربي ضد العالم العربي والإسلامي منذ وقت مبكر. وهذا ما حدث بالفعل. وأعلنته الدوائر الغربية تصريحاً أو تلميحاً بأن الإسلام هو العدو الأول للغرب بعد انهيار الشيوعية.
حصل العالم الكبير علي العديد من الجوائز ــ جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية وسام العلوم والتفوق من الطبقة الأولي 1988.. جائزة التقدم العلمي من الكويت 1992 عاش العلامة الكبير في شقة صغيرة متواضعة في كل شيء "25 شارع أمين الرافعي بالدقي" وعاش حياة الزاهدين.
كان يري أن الروتين في الجامعة هو سبب تراجعها عن أداء رسالتها.
اسندوا إليه تدريس مادة الخرائط وهي مادة يدرسها المعيدون. ولم يكلفوه بتدريس مادة المدن التي برع فيها وغيرها. كان يري أن وزارة التنمية المحلية "الشئون البلدية والقروية" فيما مضي هي أهم الوزارات هي مفتاح النهوض للأمم والدول.
لم يترك د.جمال حمدان القلم طول حياته. وحتي يوم وفاته انفجرت أسطوانة الغاز وهو يعد الشاي ليواصل عمله. وشيع إلي مثواه الأخير في جنازة بسيطة تناسب مقام العلماء الأعلام يوم الأحد 17/4/1993. حتي اسم قريته يثير علامات الاستفهام ويدعو للبحث والتفكير "ناي".
والناي آلة موسيقية.
والناي أو النأي: الصدفة أو المحارة أو المكان البعيد أو المرتفع أو الحفر حول الحنفية تمنع تسلل الماء إليها. والفراق أو الإعراض عن الآخرين.
يقول الشاعر:
ــ إذا افتقرت نأي واشتد جانبه
وإن رآك غنياً لاف واقتربا
ولعل الاسم جاء من ألحان الناي الحزينة الباكية.
دعا جمال حمدان إلي وحدة الأمة العربية وساند حق الشعب الفلسطيني في قضيته. يقول حمدان "إننا أمم تخصصنا في إهالة التراب علي عباقرتها في حياتهم. وتكريمهم بعد مماتهم" والأمم الحكيمة هي التي تبحث عن مواهبها وترعاهم. فتحصد ثمار سعيهم. وتتقدم باجتهادهم.
ومن أقوال جمال حمدان: إن سيناء هي مصر الصغري. امتدادها. وحاملة خصائصها الجغرافية وهويتها الحضارية.