جمال سلطان
هل انتصرت السياسة على الدين في العالم العربي ؟!
أعرف أن هذه منطقة شائكة جدا ، وبالغة الحساسية عند الكثيرين ، لكني أعتقد أن النقاش بات ضروريا حولها ، خاصة بعد الأحداث الجسام التي مرت بالأمة طوال العقد الأخير على أقل تقدير ، كان فيها الدين أحد أسلحة السياسة الأساسية في التدافع والصراع الذي نشأ سواء بين الجماعات وبعضها أو بين الدول وبعضها أو بين النظم السياسية المختلفة ومعارضيها ، وهو الأمر الذي انعكس بشدة على وضع الدين في المجتمع وقدسيته ومطلق احترامه كمرجعية أخلاقية ملزمة للجميع .
لست من هؤلاء الذين يرون إمكانية الفصل التام بين الدين والسياسة في العالم العربي أو في الخبرة الإسلامية الاجتماعية بشكل عام ، وشرح ذلك يطول ، ولكن الأمر أصبح يستدعي جهدا فكريا جديدا لدراسة نقطة التقاء السياسة بالدين ، ومحاولة ضبطها أو مقاربتها على الأقل ، فأحيانا يكون جدل الفكر والواقع أهم من جدل الفكر والفكر المضاد ، فالواقع وحركته أحيانا تكون كاشفة للمعاني ، واختبارا جديا وعلميا للأفكار وجدواها ، فالماركسية ـ على سبيل المثال ـ لم تهزم في معركة الأفكار والجدل والتنظير ، وما زال كثيرون يرونها ملهمة ومنقذة ، ولكنها هزمت عند التجربة وعلى صعيد الواقع واختباره ، وكان مؤلما للغاية أن يكون آخر كتاب أصدره أبقونة الماركسية المصرية ومفكرها الأبرز الدكتور فؤاد مرسي ، قبل وفاته ، هو "الرأسمالية تجدد نفسها" !.
يمكنك أن تنظر الآن إلى نقاط اشتباك السياسة بالدين في المنطقة العربية ، لترى الشيء ونقيضه ، والموقف السياسي وضده ، وكلاهما يؤسس لموقفه على مرجعية دينية ، فهناك ـ على سبيل المثال ـ علماء دين كبار يؤيدون الرئيس عبد الفتاح السيسي من منظور ديني ، وهناك علماء كبار أيضا يعارضونه ولا يرون له شرعية ، أيضا من منظور ديني ، وهناك في ليبيا علماء يرون الجنرال خليفة حفتر وليا للأمر وأملا للدولة ووحدتها يجب القتال تحت رايته ، من منظور ديني ، وعلماء آخرون يرونه خارجا على ولي الأمر ومجرما تجب مقاتلته ، من منظور ديني أيضا ، وفي الصراع السياسي الشهير والقديم بين الجارتين العربيتين ، دولة قطر ودولة الإمارات ، تجد هناك علماء كبارا ينحازون إلى تلك الدولة ويباركون سياساتها ويدعون لقادتها ويهاجمون الأخرى ، وفي الدولة الأخرى علماء كبار أيضا ينحازون لها ضد الأخرى ، ويباركون سياستها المناقضة لسياسة الأخرى ، وكل ذلك من منظور ديني ايضا .
بل عندما تنظر إلى حالة ديكتاتور وحشي شديد الدموية مثل بشار الأسد ، قتل نصف مليون من شعبه وشرد ثمانية ملايين تقريبا ، وهدم مدنا على رؤوس سكانها ، ودمر المساجد والمشافي والمدارس ، وأفزع العالم كله من وحشيته ودمويته على شعبه ، تجد أنه لم يعدم أن يجد علماء ومشايخ يدافعون عنه ويروجون لبطولاته ويدعون للقتال تحت رايته ، وكل ذلك باسم الدين أيضا .
على مستوى الجماعات الدينية ، شهير جدا حالات التشقق والانقسام ، ثم تخرج كل جماعة بأفكار ومواقف سياسية جديدة وتسفه الأخرى أو تكفرها على حد سواء ، والأخرى تبادلها نفس التسفيه أو التكفير ، كما حدث بين تنظيم القاعدة وتنظيم داعش ، وكما حدث بين جماعات دينية عديدة على امتداد المنطقة ، وخلفية الانقسام الأساس كانت مواقف تجاه أحداث سياسية أو تحالفات مقبولة أو مرفوضة ، وكل طرف يؤسس موقفه على مرجعية دينية .
في الحالة الشعبية ، وتجربتها في الواقع ، لا توجد جماعية دينية اشتبكت مع الصراع السياسي والجدل المتصل به إلا خسرت ، ونزفت من رصيد شعبتها أو من مصداقيتها أو من القبول العام بها في المجتمع وتسببت في أن ينظر قطاع واسع من المجتمع إلى أساسيات دينية باعتبارها أفكارا حزبية فتسبب ذلك في إضلال الناس وفتنتهم بالفعل ، وأظن الشواهد أكثر من أن تحصى ، سواء في مصر أو بلاد عربية أخرى كثيرة .
لا أدعي أني أملك رؤية مكتملة لتفكيك هذه الحالة وطريق الخروج منها ، فالمسألة معقدة جدا وشائكة ولها أبعاد تاريخية أيضا ، ولكني أرصد انعكاساتها في الواقع الذي أعيشه ويعيشه الناس الآن ، وأرى أنها مثلت ـ وتمثل ـ خطورة حقيقية على دين الناس وقيمهم الروحية ، وأنه لم يعد يصلح أن تترك بعيدا عن التأمل وبذل الجهد العلمي والفكري والديني لتجديد الموقف الإسلامي فيها ، باعتدال ووسطية ، تنأى بالفكرة وجدلها عن الغلو أو التطرف بكل أبعاده ، الديني واللاديني سواء ، فهي أخطر من أن تكون مجالا للتصيد وكسب النقاط .