الأهرام
يسرى عبد الله
التنوير .. الغاية والطريق
في خضم التحولات الكبرى التي صنعها عصر التنوير في إنجلترا وفرنسا وألمانيا جاء كتاب فولتير «رسالة في التسامح» الذي دعا فيه إلى ما اسماه جني ثمار العقل، هذا العقل الذي وصفه بأنه ينتشر يوميا ليدخل حوانيت التجار مثلما تفتح له أبواب القصور. ربما كان ذلك علامة على زمن ما، إشارة إلى عصر يستعيد فيه الإنسان فرديته، وجوده الحر، علاقته الجدلية مع العالم، فلا شيء يعلو على صوت العقل، وصارت مساءلة القائم والموروث منهجا، وبدا التطور الذي لحق بالفلسفة تحديدا تطورا للعقل ذاته، وبدأت أوروبا تجني ثمار العقل حقا، فتعززت المركزية الأوروبية في إنتاج الأفكار وبدأت التجليات المعرفية تنسحب على كل مناحي الحياة وقطاعاتها، ودخلنا في دوامة من التصورات المتسارعة التي وجدت ضالتها في حقول متنوعة، وبدأ العالم يعرف فكرة الثورات المتعاقبة على المعرفة، حيث لا معرفة نهائية، فالكلاسيكية مثلا تتراجع أمام الرومانسية التي بدت تعبيرا عن الداخل الإنساني المأزوم، ثم تأتي الواقعية لتفرض سطوتها إلى حين، حيث العناية بالواقع الخارجي للأشياء، وهكذا استمرت النظريات النقدية مثلا في جدلها الدائم حتى اليوم مدفوعة بذهنية شاكة ومتسائلة لا تستنيم لشيء ولا تقف عند فكرة لتقدسها وبدا الإغراق في التصورات المعرفية بحاجة حقيقية إلى تبسيط ممنهج عبر عنه التنويريون الجدد الذين رأوا ضرورة وصل الناس بالأفكار عبر لغة محددة تتخلى عن التهويم المفتعل، وبينما نحن كذلك كان التنوير في عالمنا العربي يسير على قدم واحدة كسيحا محاصرا بالأفكار الظلامية وبالتلفيق المستمر بين ماض انتهى وحاضر يتجدد. ومن ثم ستبدو استعادة التنوير الآن استعادة للمستقبل.

لقد بدت سنوات السبعينيات من القرن الماضي ارتدادا عن حركة التاريخ في اندفاعها صوب الأمام، وبدأت الجماعات الإسلامية تطرح حل التراث بوصفه خلاصا، وبدأت في سنوات الثمانينيات والتسعينيات مقولة التنوير تتواتر في الفضاء المصري ومن ثم العربي على نحو واسع، غير أن انعزال الخطاب التنويري عن واقع الناس تارة، وخِفته تارة ثانية، واستعلاءه المعرفي تارة ثالثة، خلق صراعا علنيا ومضمرا بين دعاة التراث ودعاة التنوير في مناخات لم تكن عونا لخطاب التقدم وقيمه الإنسانية الحرة.

وبدأ بعض الأكاديميين والمثقفين رفع مشعل التنوير دون الإيمان الفعلي بقدرته على التغيير، فسمعنا جعجعة كثيرة ولم نر طحينا. وكانت مظاهر الدولة الدينية تتغول حتى كان حضور الجماعة الإرهابية في المشهد المصري كثيفا، وبدأ الاختبار الفعلي عقب ثورة يناير 2011 حيث أسفرت تيارات الإسلام السياسي عن ملامحها التي أخفتها كثيرا والتي جعلت بعض المحسوبين على التيارين الليبرالي واليساري يعتقد في قدرة الإسلاميين على قبول التعدد والاختلاف.

اتسعت محنة العقل المصري ومن ثم العربي باتساع حضور الجماعات الإسلامية في الفضاء العام، حيث تم أسلفة كل شيء، وتم تغليب المنطق الخرافي في رؤية العالم، ولعبت التحالفات المستمرة بين الفساد والرجعية دورا هائلا في التكريس لوضع جامد، وبائس، وكارثي. يعتبر التنوير وسيلة وغاية في آن، إنه وسيلة لتحرير الوعي، وغاية للدفاع عن العقلانية، باعتبارها طريقا للموضوعية والمنهج العلمي، ولن يستعاد التنوير في غيبة من المؤسسات المعنية بالأفكار، ولن تجدي ثقافة الكرنفال التي وصلت لأكثر صورها خفة في تغيير العقل العام، فالصخب الكاذب لا يصنع شيئا، والمؤسسات الثقافية المرتبكة يجب أن تتعامل مع الثقافة باعتبارها خطوة مركزية لتوسيع مدارات العقل العربي، واستعادة القوة الناعمة المصرية عبر طرح ناجز يعيد الاعتبار وفق آليات إجرائية واضحة للتأثير المصري الفاعل ثقافيا في محيطه العربي. إن الرغبة في تطوير العقل العام، واستعادة حيويته المفقودة يستلزم إدراكا سياسيا بحتمية التنوير الآن، وأهميته في بناء وعي مختلف ومغاير. إن مواجهة الجمود الفكري والتراجع المعرفي تتطلب احتفاء بقيم العلم والبحث العلمي والحريات الفكرية التي تخلص الجماهير من أسر الامتثال للماضي والخضوع لتصوراته القديمة في رؤية العالم.

وبعد.. لكي يصبح التنوير طريقا وغاية، لا بد أن تعي مؤسسات إنتاج العقل العام دورها التاريخي في تمجيد العقل، في الحفاظ على أنواره، لا إطفائها، سعيا إلى أن يتحول التنوير إلى حالة مجتمعية، ولا يصبح رطانا يخص جماعة من المثقفين، إن المعنى الأبهى الذي يجب أن نبحث عنه الآن يتصل بتلك القدرة الفريدة على تنمية قيم العقل النقدي، وإعلاء ثقافة التفكير في مواجهة بؤس التكفير، وهنا وعبر هذا الفهم يصبح التنوير قيمة مضافة إلى متن الأمة المصرية في مواجهتها النبيلة ضد ثقافة الكهوف والبراري وإقصاء العقل.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف