فهمى السيد
بفهم - لغة الضاد في القران (1)
جاء في لسان العرب ثمة ما يسمى بـ (الألفاظ المتضادة)، وهي وسيلة من وسائل التنوع في الألفاظ والأساليب والتعبير في العربية، فكانت بهذا المعنى خصيصة من خصائص اللغة العربية في مرونتها وطواعيتها في التنقل بين السلب والإيجاب، والتعكيس والتنظير. واستعمالها يدل على اتساع العرب في كلامهم، وأن مذاهبهم لا تضيق عليهم عند الخطاب.
(الضد) في اللغة يقع على معنيين متضادين، والمراد بمصطلح (الأضداد) الألفاظ التي توقعها العرب على المعاني المتضادة، فيكون اللفظ الواحد منها مؤدياً لمعنيين مختلفين بدلالة السياق والسباق. وبعبارة أخرى: استعمال كلمة للدلالة على معنى معين، واستعمالها في الوقت نفسه للدلالة على عكس هذا المعنى. وكلمة (الضد) نفسها تدل على (المخالف)، وتدل على (النظير)، ومن أمثلة الألفاظ المتضادة قولهم: (جَلَل) للكبير والصغير، وللعظيم واليسير. و(الجون) للأسود والأبيض. و(القوي) للقوي والضعيف. و(الرجاء) للرغبة والخوف.
قال ابن فارس: "إن من سنن العرب في الأسماء أن يسموا المتضادَّين باسم واحد". وقد قال بعض أهل اللغة: "إذا وقع اللفظ على معنيين متضادين، فالأصل لمعنى واحد، ثم تداخل الاثنان على جهة الاتساع".
والذي عليه أكثر أهل اللغة أن (الأضداد) موجود في لسان العرب، قال بذلك: الخليل، وأبو عبيدة، وابن جني، والزجاج، وغيرهم من أئمة اللغة، وكفى بهم سنداً فيه. وأنكره بعض أهل اللغة، كابن دريد، وابن درستويه. وقد رد ابن فارس على المنكرين بقوله: "وهذا ليس بشيء؛ وذلك أن الذين رَوَوا أن العرب تسمِّي السيف مهنداً، والفرس طِرْفاً، هم الذين روَوا أن العرب تسمِّي المتضادَّين باسمٍ واحد".
وقد يكون من المفيد القول: إن المنكرين لـ (الأضداد) حملوا الألفاظ التي تدل على معان متضادة على أنها من باب المشترك اللفظي، وبعضهم أرجعها إلى تعدد لغات العرب.
والمفسرون للقرآن الكريم أقروا بوجود ألفاظ (الأضداد) في اللغة والقرآن، وتحفظ بعضهم عليها. فالطبري عند تفسيره لقوله تعالى: {فلا أقسم بالشفق} (الانشقاق:16)، نقل أقوالاً في المراد من (الشفق)، ونقل عن بعضهم أن (الشفق) اسم للحمرة والبياض، وأنه من الأضداد، ولم يعقب على هذا القول، ما يدل على أنه يقر بوجود الأضداد. والقرطبي نقل كثيراً من أقوال أهل اللغة في المراد من بعض الألفاظ القرآنية على أنها من باب الأضداد، وصنيعه هذا يفيد أنه يقول بوجود ألفاظ الأضداد في اللغة والقرآن الكريم.
وعلى هذا سنن الطبري والقرطبي سار كل من البغوي، والبيضاوي، والرازي، وأبو حيان، وابن كثير، والآلوسي، وآخرون.
وقد تردد ابن عطية في القول بـ (الأضداد)، فتارة أنكره، كما فعل عند تفسيره لقوله تعالى: {وأسروا الندامة} (سبأ:33)، قال: "ولم يثبت قط في لغة أن (أسر) من الأضداد". ونحو هذا قوله عند تفسيره لقوله تعالى: {إن الساعة آتية أكاد أخفيها} (طه:15)، فقد نقل عن بعض أهل اللغة أن المراد بـ {أخفيها} أي: أظهرها، وأن (أخفيت) من الأضداد. وعقب على هذا بقوله: "وهذا قول مختل". في حين عد كثير من أهل اللغة هاتين الكلمتين من (الأضداد). وتارة أخرى أقره كما فعل عند تفسيره لقوله سبحانه: {إلا امرأته كانت من الغابرين} (الأعراف:83)، حيث نقل عن النحاس أن لفظ (الغابر) من الأضداد، يقال في الماضي وفي الباقي، وأما في هذه الآية فهي للبقاء، أي من الغابرين في العذاب. فنَقْلُه عن النحاس من غير تعقيب، يشير إلى قبوله بالقول بـ (الأضداد).
وقريب من مسلكِ ابن عطية مسلكُ ابن عاشور، فقد تحفظ بالقول به تارة، كما هو صنيعه عند تفسيره لقوله تعالى: {فظلتم تفكهون} (الواقعة:65)، حيث نقل عن الكسائي أن المراد من لفظ {تفكهون} التلهف على ما فات، وأن الفعل {تفكهون} من الأضداد؛ ذلك أن العرب تقول: تفكهت، أي: تنعمت، وتفكهت، أي: حزنت. قال: "وادعى الكسائي أنها من أسماء الأضداد، واعتمده في "القاموس"، إذ قال: وتفكه، أكل الفاكهة، وتجنب عن الفاكهة ضده"، فقوله: "وادعى..." يومئ إلى أن ابن عاشور يتحفظ على القول بوجود ألفاظ الأضداد.
وكذلك فعل عند تفسيره لقوله سبحانه: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا} (الكهف:79)، فقد ذكر أن بعض المفسرين فسر قوله سبحانه: {وراءهم} بمعنى (أمامهم)، وعقب على ذلك بقوله: "فتوهم بعض مدوني اللغة، أن (وراء) من أسماء الأضداد، وأنكره الفراء، وقال: لا يجوز أن تقول للذي بين يديك: هو وراءك، وإنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي، تقول: وراءك برد شديد، وبين يديك برد شديد. يعني أن ذلك على المجاز. قال الزجاج: وليس من الأضداد كما زعم بعض أهل اللغة". فقوله: "فتوهم..."، ونَقْلُه إنكار الفراء له، ثم نقله لقول الزجاج: إنه ليس من الأضداد، يدل مجموع ذلك على تحفظه على القول بالأضداد.
بيد أن ابن عاشور في مواضع أخري من تفسير نجده يقول بـ (الأضداد)، كما كان شأنه عند تفسيره لقوله تعالى: {والليل إذا عسعس} (التكوير:17)، فقد نقل عن المبرد والخليل أن لفظ {عسعس} من ألفاظ الأضداد، يقال: عسعس الليل، إذا أقبل ظلامه، وعسعس، إذا أدبر ظلامه. ونَقْلُه عنهما دون تعقيب أو تعليق يدل على أنه يقول بـ (الأضداد).