المصريون
جمال سلطان
الإخوان والحركات الإسلامية وعقم المسار التاريخي
هل تعرضت الحركات الإسلامية الحديثة لظلم تاريخي ؟ نعم هذا صحيح ، هل تسببت الحركات الإسلامية في ظلم الحركة السياسية العامة وتطورها في العالم الإسلامي ؟ نعم هذا صحيح أيضا ، والحقيقة أن هذه المسألة ـ مع ما قدمته أمس ـ تحتاج إلى تفكيك وتأمل ، وإعادة تركيب للصورة والسلوك والفكر والمنهج والتصور ، وتأمل مسار التاريخ ، ونحن نقترب من تمام القرن على أول تجربة لصيغة الحركة الإسلامية في مرحلة ما بعد نظام الخلافة ، وهي الصيغة التي أوجدها الأستاذ حسن البنا رحمه الله ، في أعقاب إعلان مصطفى كمال في تركيا زوال نظام الخلافة بانتهاء الدولة العثمانية ، وميلاد الدولة التركية القومية الحديثة .
هذا الحدث كان له وقع مزلزل على الضمير الإسلامي وقتها ، نظرا للعلاقة الروحية العميقة للمسلمين مع نظام الحكم الذي ألفوه منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى إعلان مصطفى كمال ، وكان أن انعقدت عقب ذلك مباشرة مؤتمرات ضخمة في القاهرة ومكة المكرمة والهند ، من أجل النظر في هذا "الخطب الجليل" والبحث عن بدائل ، ودخلت في ذلك مطامع بعض الحكام ، وفشلت جميعها لأن العقل الإسلامي لم يكن قد أوغل في الاجتهاد السياسي للتأسيس لصيغة بديلة ، فظهرت اجتهادات شعبية واجتماعية محلية ، خاصة في مصر ، لملئ هذا الفراغ ، مثل ظهور جمعية أنصار السنة المحمدية ، وجمعية الشبان المسلمين ، وكذلك ظهرت جمعية الإخوان المسلمين التي أسسها الأستاذ أحمد السكري وحسن البنا ، وكان لتلك الجمعية أثرها العميق في مجريات النشاط الإسلامي ومسار تاريخه طوال القرن الذي تلاها ، من أول نشأتها قرابة العام 1928 وحتى اليوم ، حيث صب البنا قالبا لتصور تنظيم الجماعة البديلة للدولة ، أو وارثة الخلافة ، الجماعة الأمة ، الجماعة التي يذوب فيها كل حدود قومية أو جغرافية أو سياسية ، والتي تستوعب نشاطات الفرد كاملة ، سياسيا واقتصاديا وثقافيا وروحيا وإعلاميا ، هي أمة كاملة ، وبديل إنساني واجتماعي شامل ، شرنقة تحيط بالإنسان من جميع جوانبه ، وتملك الولاية المنفردة عليه والسمع والطاعة والإخلاص والتفاني والتسليم الكامل لرسالتها وقراراتها ومناهجها واختياراتها جميعا .
خطورة هذه الفكرة أنها تصنع للفرد المسلم قالبا يفصله تماما عن أي محددات سياسية أو اقتصادية أو إنسانية أو دينية أخرى في المجتمع الذي يعيش فيه ، الجماعة تملأ عليه كل ذلك ، هي دولة بديلة ، أمة بديلة ، مجتمع بديل ، وبالتالي كانت الجماعة دائما خارج إطار فكرة الدولة ومرجعيتها والولاء لها ، وخارج إطار فكرة الدستور والقانون والولاء لهما ، إلا بموجب الاضطرار العملي لممارسة الحياة الطبيعية واستخلاص الحقوق والاستفادة من فرص لصالح الجماعة ، وهذا ما جعل الجماعة في صدام حتمي ودائم مع الدولة القومية في جميع أطوارها ، وأيا كانت صيغتها ، من أول الملك فؤاد إلى الملك فاروق إلى عبد الناصر إلى السادات إلى مبارك ، وعندما تفجرت ثورة يناير ، ترددت الجماعة في الانضمام إلى القوى المدنية ، ثم دخلتها بكل قوة بعد أن استبان أنها فرصة تاريخية لإنهاء ضغط مبارك ونظامه عليها ، دخلتها بكل ثقلها باعتبارها مسألة مصيرية وهذا ما خدم الثورة بالفعل في مواقف مفصلية ، وظلت حسابات الجماعة طوال فترة ما بعد يناير حسابات تنظيمية بحتة ، هي التي توجه اختياراتها ، وهي التي أملت عليها الانحياز إلى المجلس العسكري والدفاع عنه بكل سبيل ، ثم هي التي جعلتها ـ بعد أن وصل أحد أعضائها لرئاسة الجمهورية في حدث تاريخي نادر ـ تراهن أيضا على المؤسسة العسكرية وتعطي ظهرها لكل القوى الأخرى التي شاركتها الثورة ، وراهنت بشكل خاص على اللواء عبد الفتاح السيسي قائد المخابرات الحربية ، وقربه مرسي والجماعة وكرموه ورقوه وأثنوا عليه بإفراط شديد لما ظهر لهم من تدينه واعتبروه منهم ، لدرجة أن الإعلامي توفيق عكاشة كان لا يتحرج أن يتحدث في قناته "الفراعين" عن أن الإخوان اخترقوا المخابرات الحربية وأن رجلهم يسكن هناك ! ، وحتى عندما وصلت الجماعة إلى رئاسة الدولة رفضت بإصرار حل التنظيم وطي صفحة الجماعة ، وراوغت كثيرا في ذلك واصطنعت جمعية بديلة بنفس الاسم ، إلى آخر هذا المسار المؤسف الذي انتهى إلى ما نعرف جميعا .
والحقيقة أن هذا "القالب" الذي صبه أو سكه الشيخ حسن البنا قبل حوالي تسعين عاما ، أصبح هو القالب الذي تشكلت وفق أبعاده كل الحركات الإسلامية التي نشأت بعد ذلك ، حتى تلك التي كانت تختلف مع الإخوان أو حتى تكفرها ، المعتدل منها والمتطرف ، وصولا إلى داعش والقاعدة ، كانت الرؤية والنظام والولاء والنظرة إلى الدولة القومية ، هي نفسها بدون أي اختلاف ، وهذا ما جعل الحركات الإسلامية ، رغم كثرتها وضخامة المنتسبين لها غالبا ، تعمل خارج إطار الحياة السياسية العامة ، ولا تستقيم لها شراكة مع الأحزاب الأخرى أو القوى المدنية ، وإن وقع شيء من ذلك عرضا انتهى إلى مرارات وأحقاد ، كما كانت دائما خارج أي إطار قانوني أو دستوري ، كانت خارج نطاق الدولة كدولة ، بغض النظر عن النظام السياسي ، وهذا ما أنتج أمرين ، الأول هو الصدام الدائم للجماعات مع الدولة وأجهزتها الأمنية والسياسية بكل ما خلفه ذلك من آلام وضحايا على مدار أجيال عديدة ، لأن أي نظام كان ينظر إليها باعتبارها بديلا وجوديا له إذا أتيحت له الفرصة أو النمو ، والثاني هو تفريغ الحياة السياسية من الطاقات الكبيرة التي كان بإمكانها دعمها وتطوير الخبرة الديمقراطية ، ومنح النظم المختلفة الذريعة للعصف بالجميع وقمع أي حراك وطني مدني يؤسس لدولة ديمقراطية مدنية ، وهو ما عطل تطور المجتمعات ، وإن بدون قصد ، وأهدر طاقات أجيال من المهمومين بالشأن العام .... وللحديث بقية .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف