جمال سلطان
الحركات الإسلامية نحو أفق ديني اجتماعي جديد
من الخطير على الحركات الإسلامية أن تظل أسيرة لقالب "تنظيمي فكري تصوري" تم وضعه قبل تسعين عاما باجتهاد بشري متأثر بظروف نفسية واجتماعية وسياسية وثقافية وعالمية كانت قائمة ، ولم يعد لها وجود الآن ، لقد طوت البشرية صفحة النظم "الامبراطورية" العابرة للقارات والتي عرفها القرن التاسع عشر وما قبله ، وضمنها فكرة الخلافة وظلالها السياسية والأيديولوجية ، وتعيش البشرية الآن حقبة الدولة القومية بحدود سيادتها الجغرافية ونظمها الدستورية الخاصة ، وعلى أي جهد بشري إسلامي أن يحترم الواقع لكي يستطيع أن يتعايش معه أولا ، ثم ينميه أو يطوره ثانيا ، ومن هنا فإن فكرة وجود الجماعات أو التنظيمات الإسلامية بمفهومها القديم الذي أسسه حسن البنا لم تعد تصلح نهائيا للعمل الرشيد في واقعنا المعاصر ، لا في مصر ولا في غيرها ، وهذا يشمل جميع التنظيمات والحركات التي تقوم على بنية تنظيمية مشابهة ، ووعي سياسي مشابه ، لم تعد هناك دولة في الشرق أو الغرب ستقبل أن تكون هناك جماعة بديلة لفكرة الدولة ، وتعمل خارج إطار الدولة ، ومتجاوزة بأهدافها السياسية وغير السياسة حدود وإطار الدولة القومية بمحدداتها الدستورية والقانونية والجغرافية ، أي جهد من هذا النوع هو انتحار سياسي واجتماعي لا مستقبل له ، وهذا هو السبب الذي أفسد أي جهد سياسي متطور للحركات الإسلامية جميعا ، وتحويل خبرتها التاريخية إلى مظلوميات متعاقبة ، لأن الصدام حتمي بينها وبين أي نظام سياسي ، أيا كان ، ديكتاتوري أو ديمقراطي ، الخلاف فقط في مستوى عنف رد الفعل والعقاب ، ولكن في النهاية لا بد من الصدام ، لأن المشروعين مختلفان بل متناقضان وينفي أحدهما الآخر في نهاية المطاف ولا تتسع لكليهما أرض واحدة وفضاء سياسي واحد ، حتى وإن تم تجنب الصدام أو التعاون المصلحي في فترات عابرة ، هذا ما حدث مع الإخوان وما تولد عنهم من تنظيمات وجماعات في مصر والمنطقة العربية مثلا ، وما حدث مع جماعة "جولن" في تركيا أيضا ، وأصبح من الحتمي على الحركات الإسلامية كسر هذا القالب نهائيا ، والبحث عن صيغ جديدة للعمل والعطاء والمشاركة وفق واقع إنساني جديد .
هذا الأمر لا يعني مصادرة حق أي "مواطن" ـ كفرد ـ يؤمن بالمرجعية الإسلامية في الفكر والاجتماع في أي بلد من أن يكون له دوره وحقه في تطوير مجتمعه والمشاركة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو غيرها ، ولكن أن يحدد مجال اهتمامه ويحصر نشاطه في إطار ما اختاره وفق قواعد الدستور الحاكمة لوطنه والقوانين السائدة ، حتى ولو لم يرض عنها ، ومن حقه أن يطالب بتعديلها أو يعمل على تعديلها وفق ما هو متاح له أيضا من أدوات دستورية وقانونية وهي كثيرة .
فمن أراد أن يشارك في العمل السياسي فيكون من خلال تأسيس أو عضوية حزب سياسي ، وفق القواعد القائمة إن كان نظام الدولة يسمح بفكرة الأحزاب ، ويشارك في الانتخابات العامة بمستوياتها المختلفة على هذا الأساس ، ويجري تحالفاته السياسية على أساس ما يراه مصلحة وطنية ، ويمكن أن يشارك في النهضة الدينية وتعزيز التربية الدينية من خلال تأسيس جمعيات دينية ترعى هذا الجانب وتعمل من أجله وتنشر العلوم الدينية وتعزز الأخلاق والفضائل في المجتمع ، ويمكن أن يكون له نشاط في مجال الدفاع عن الحقوق العامة أو أي نشاط إنساني ، وكذلك جمعيات أو مراكز بحث أو روابط ثقافية أو أدبية أو غيرها ، والأهم في هذا كله هو ما يتعلق بالنشاط السياسي والعمل العام ، فينبغي أن تطوى صفحة "الجماعة" منهجيا وتنظيميا وتصورا لرسالة الإنسان المسلم في المجتمع ، الجماعة البديلة للدولة ، الجماعة الأمة ، الجماعة المرجعية لشئون الحياة كافة ، هذه فكرة مضرة جدا بالدولة وبالمجتمع وبالدين وبالتطور السياسي معا .
والميزة هنا ، أن الشباب المؤمن بالمرجعية الإسلامية والمشروع الإسلامي ، وهم غالبية كبيرة في معظم المجتمعات العربية والإسلامية ، عندما ينتمون إلى تلك الأحزاب المدنية أو الجمعيات أو المنتديات أو الروابط ، سيمنحونها عنفوانا كبيرا ، ويضخون فيها دماء صحية تقوي أثرها ، وحضورا أوسع وأكثر تأثيرا في المجال الذي تنشط فيه ، وهذا كله مما يفيد المجتمعات ويقويها ويطور النشاط الإنساني بكل أبعاده ويقرب المجتمع من توازن القوى السياسية الممهدة لديمقراطية حقيقية راسخة ، ويثري المجتمع بشكل عام سواء في الأحزاب السياسية المدنية أو النشاط الديني والتربوي أو العلمي أو الأدبي أو الثقافي أو المعرفي ، فضلا عما يمكن أن تتشعب إليه تلك الجهود من المساهمة الجادة والفعالة والمثمرة في تطوير البحث العلمي والرعاية الاجتماعية والصحية وكل ما يتعلق بالنهوض الحضاري للمجتمع والناس ، وهو ما نراه حيا ومتوهجا في المجتمعات الغربية التي أخذت عنا ـ مع الأسف ـ نظام الوقف ، وأعادت هيكلته وتحديثه وتقنينه مع نظام الضرائب ، حتى تحول إلى شريان حياة متجدد للمجتمع والإنسان .
الأفق مفتوح أمام أبناء المشروع الإسلامي لابتكار أفكارهم ، وأطرهم الإنسانية الجديدة ، التي تتجاوز القوالب القديمة التي عطلت طاقاتهم في الحقيقة ، وخنقتهم ، وحصرتهم في ما يشبه "جيتو" سياسي واجتماعي وثقافي في مجتمعاتهم ، وتركتهم نهبا للسحق الأمني المتوالي ، وجعلتهم على الدوام "قضية أمنية" وليست "قضية سياسية" ، وتحولت أجيالهم إلى ما يشبه العشب الذي كلما نما وشب تم حصده بلا رحمة ، وتكرر دور النمو والحصد هذا على مدار العقود الطويلة الماضية ، فلم يفض جهدهم إلى أي تراكم اجتماعي أو سياسي أو حتى فكري ، أجيال وراء أجيال تضيع ، وأعمار تفنى في الهدر ، ومجتمعات تخسر طاقات ملايين من أفضل وأنبل أبنائها ، لقد آن لهذا كله أن ينتهي ، وأن يختط الشباب المسلم لنفسه مسارات جديدة منفتحة على كل مكونات المجتمع ومتداخلة معه ومتشاركة في نموه وتطويره .
المسار الجديد ، أيا كان ، لن يكون مفروشا بالورود ، ولا خاليا من التحديات والعوائق والمتاعب أيضا ، لكن المؤكد أنه الأكثر إثمارا والأكثر قدرة على تراكم الجهد وتطوير الحضور وتفعيل الجهد الحركي ، فضلا عن أنه أقل كثيرا في كلفته وتضحياته من كلفة المسار القديم ومآسيه .