تحولات ثقافية عديدة تشهدها المملكة هذه الأيام، فبعد السماح للسيدات والفتيات بمشاهدة مباريات كرة القدم، ودخول المملكة إلى عالم «دور السينما» بعد 35 عاماً من الحظر، أكدت تقارير إعلامية أن السعودية تنوى -لأول مرة فى تاريخها- استضافة أسبوع للموضة خلال الشهر المقبل. يحدث هذا بالتزامن مع أزمة أثارها حديث أحد الكتاب السعوديين، «محمد السحيمى»، بسبب دعوته إلى تقليل عدد المساجد بالمملكة وانتقاده صوت الأذان. ومن الملفت أن مفتى السعودية، الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، رفض كلام «السحيمى» ووصف فكره بالسيئ، ورأيه بالخاطئ.
ثمة لقطتان أساسيتان فى هذه المجموعة من الوقائع، اللقطة الأولى تتعلق برد مفتى الحرم على «السحيمى»، فى وقت لم يعلق فيه على حكاية حضور النساء إلى الملاعب ودور السينما والأوبرا وأسبوع الموضة وغيره من فعاليات تنوى المملكة تنظيمها خلال العام الحالى. قد يقول قائل إن الأمر لا يحتاج إلى تعليق، فرأى المشايخ فى مثل هذه الأمور معروف، يستوى فى ذلك مشايخ مصر مع مشايخ المملكة، مع مشايخ غيرهما من الدول الإسلامية، فهم يتحفظون على هذه النوعية من الفعاليات، لكنهم فى كل الأحوال لا يعبرون عن تبرّمهم منها بشكل معلن، حتى لا يغضبوا المسئولين، وقد تجد بعضهم بعد حين يأخذ فى تبرير هذه الفعاليات ولن يعدم ساعتها الدليل الشرعى الذى يؤكد أنها جائزة وحلال.. حلال.. حلال. الشاهد فى هذه المسألة أن أغلب مشايخ الأمة يأخذون فقههم عن السلطة، فإذا كانت منغلقة أغلقوا كل مناشط الحياة بالضبة والمفتاح بالدليل والحجة الفقهية، وإذا كانت منفتحة، فلن تعجزهم حيلة عن فتح كل شىء على البحرى بالدليل والحجة الفقهية أيضاً.
اللقطة الثانية ما تشير إليه هذه الأحداث من أن ماء الثقافة يتحرك فى المملكة العربية السعودية، وأن تحولات غير مسبوقة يشهدها هذا المجتمع حالياً، قد يفسرها البعض برغبات أو أسباب سياسية، لكن يبقى أن أى فكر سياسى لا يستطيع أن يتمكن من الواقع إلا وهو مهيأ لتقبله. المسألة فى جوهرها ثقافية، تعبر عن قيم جديدة لواقع جديد، ربما نظر البعض إلى هذا التحول كنوع من التشوه، الذى يضرب مجموعة القيم الأصيلة للمجتمع السعودى، وقد يرى آخرون الأمر عكس ذلك، فينظرون إليه كتطور طبيعى يأتى كتعبير عن أجيال جديدة نشأت فى ظل أدوات وسياقات ومناخات فكرية مختلفة كل الاختلاف عن الأجيال التى سبقتها.
هناك مزاج عام فى الشارع الإسلامى أصبح أكثر ميلاً لمراجعة الموروث، ولست أقصد فى هذا السياق الموروث العقائدى، بل أقصد الموروث الفقهى والفكرى، الذى يمثل البضاعة الأساسية للمشايخ، فالعقيدة والإيمان بالله ورسوله والكتاب الذى أنزل على رسوله شىء، والغرق فى حكايات وأقاصيص بعض كتب التراث، وعدم التمييز المبصر بين الغث والسمين فيها أمر آخر. تلقى الإسلام عن القرآن والسنة شىء، وتلقيه عن الدعاة والمشايخ شىء آخر. ما يحدث فى المملكة سيؤدى إلى سقوط «سلطة المشايخ». ومن عجب أن تسقط السلطة التى علا شأنها بفعل الساسة من الأجداد بأيدى الساسة من الأحفاد.. حكمته!.