بوابة الشروق
جميل مطر
حريتى
هاتفت صديقتها هذا الصباح متلهفة لتقول لها «غبنا»، كل عن الآخر، أسبوعا. غبنا منذ انتهينا من حوار عن استمتاع اللحظة. وصلك بدون شك ما وصلنى من أشكال متنوعة من العتاب والشكوى والثناء والمساندة على بعض ما دار فى حوارنا. كل ما وصلنا يستحق على كل حال الرد والنقاش. هناك ما استوقفنى أكثر من غيره وهناك ما صدمنى وإن برفق ريشة ناعمة. اتهمتنا إحدى المهاتفات بأننا فى حوارنا الأسبوع الماضى عن استمتاع اللحظة أغفلنا أو تجاوزنا فى تحليلاتنا لفعل اللحظة وسلوكياتها حدود الحرية الممنوحة لنا، نحن النساء. صديقتى: أما وقد انتقل الجدل من استمتاع اللحظة إلى حرية المرأة تعالى نتدخل فنناقش ما يمسنا من جوانب فى قضية «الحرية».

أجابت الصديقة بدون كثير أو قليل من التردد قائلة: «معك كل الحق وبخاصة بعد أن شكلت بعض الردود عن غير قصد سحابات كثيفة من الشجون والآلام. أنا على الطريق، فانتظرينى».

***

أطلت الصديقة صاحبة الدعوة إلى الحوار الجديد بخطاب دفاع عن اختيارها موضوع الحرية فى زمن القيود. قالت: «أنا لا أطالب بحرية كاملة ولا مطلقة للمرأة فى عالم لا يزال الرجل فيه مهيمنا. أريد فقط أن أحظى ببعض متع يحتكرها الرجل، متع حاز الرجل حق توصيفها وسلطة تحريمها أو تمريرها واحتكر حق إصدار الأحكام على من تساورها نفسها الأمارة بالسوء الاستمتاع بها أسوة بالرجل.. يؤلمنى أشد الألم أن الرجل لا يزال يستخدم نفوذه وقوته ليجبرنى بهما على تقييد حريتى بنفسى والخضوع له فى لحظات يختارها، فهو السيد، سيد الوقت وفى مواقع يختارها فهو السيد فى المكان. يختار الوقت والمكان للاستمتاع باستلاب سعادة ليست فى معظم الحالات من نصيبه وحده فمعه فى كثير من حلقاتها شريكة.

تسأليننى: ماذا أريدهم أن يفعلوا. أجيبك بسرعة وبدون تفكير طويل: أريد أن يتركونى أقرر بحالى ولحالى ما يمتعنى ويسعدنى وما ينفرنى ويتعسنى ويخنقنى. أنا الأدرى بحالى ومزاجى ورغباتى. منهم من يقرر أنه صاحب حق فى أن يحدد لى رغباتى وأن يحبسها ويفرض التعتيم على أحلامى ونشواتى وشهواتى، وفى الوقت نفسه يعين نفسه صاحب الحق الأوحد فى أن يختار من بين كل هذه الرغبات والنشوات واحدة دون غيرها ودون استشارتى ودون أى اعتبار لرأيى. فى النهاية، أى بعد كسر إرادتى ونفى شخصيتى ينصرف ليعود يكرر سطوته أو يرحل رحلة اللاعودة دون أدنى اعتذار تاركا إياى لمجتمع لا يرحم.

أنا أريد، وكل النساء أيضا، نريد أن نجرب ما يجربه الرجل أو بعضه على الأقل وبعدها فقط يحق للمجتمع أن يحاسبنا. هم الآن يحاسبوننا على ما لم نجربه من قبل. هذا ليس من العدل فى شىء. دعونا نجرب ونخطئ، ولن نخطئ كما يشيع عنا بعض الرجال من المحافظين ورجال عينوا أنفسهم باسم الدين «أعداء نساء».

***

قاطعتها صديقتها لتقول «أرجو ألا تبالغى فى المطالب. تعرفين كما أعرف وتعرف كل النساء أن أمنا حواء بالغت فى مطالبها وفى تقديرها لمساحة حريتها أو أخطأت فى التوقيت فطردت من الجنة. تعرفين أيضا بعد سنين طوال من السعى والجهد أنهم يتعاملون معك على أساس قاعدة أن حريتك أخطر عليهم وعلى العالم من أى تهديد آخر. أو لعلك لا تعرفين حتى الآن وعلى الرغم من كل ما قاسيت أن كل قسط تحصلين عليه من الحرية يخصم قسط مماثل له فى اللحظة نفسها من إرادة الرجل وهيمنته. تذكرين كم حاولنا عبر فلاسفة وثغرات فى التاريخ نشر القناعة بأن حريتنا إضافة إلى قوة الرجل والقبيلة أو الدولة أو الإمبراطورية. ما حققناه يا عزيزتى من نجاحات سرعان ما أغرقها طوفان رد الفعل من رجال قساة وأنظمة الطغاة وعصابات التطرف الدينى فكرا كان أم سياسة أم حربا.

أتظنين أن هؤلاء وغيرهم ينسون كيف أن نزول النساء إلى الشوارع فى ثورة 1919 حفز الرجال وأثار نخوتهم فأضاف إلى قوتهم وإلى قوى الثورة والتغيير فى المجتمع. هى الثورة التى على أثرها تشكلت حركة «الإخوان المسلمون». ليست مصادفة يا صديقتى. كذلك لن ينسى رجال كثيرون فى جميع أطياف السياسة والدين ما فعله وجود هذا الكم من النساء فى ساحات الثورة المصرية فى يناير 2011 وشهور بعده. كن الوقود الذى أبقى الشعلة مشتعلة وأحدث شرخا عميقا فى منظومة القوى الكارهة لتحرر الإنسان المصرى، وبخاصة المرأة وخروجها إلى الشارع وثورتها على الظلم والقمع والتعذيب. رجال يمارسون أعمالا كريهة ضد مجتمع وبخاصة ضد نساء اخترن مع المجتمع النهوض والمساهمة فى إقامة حكم جديد يحترم كرامتهن ويحارب الفساد ويمهد لبناء مؤسسات ديموقراطية يكون للمرأة فيها مكانة ودور تستحقهما.

***

أشكرك يا صديقتى، أشكر لك عودتك المتكررة وفتحك سيرة ثورة يناير ودورنا فيها. يتهموننا بأننا أثرنا الفوضى وقضينا بأيدينا وأفعالنا على الثورة. تعرفين أن الحقيقة اختبأت فى مكان أمين ترعاها قلوب مؤمنة بالثورة وأهدافها. أما أنا وأنت فأظن أننا سنواصل العمل حتى نحصل على حريتنا على أكمل وجه ممكن. أنا لم أتجاوز يوما حدود حريتى. لم أتخطاها فأسيئ إليها وإلى نفسى. لم تكن حريتى ولا حريتك سببا فى الفوضى. يكفينى أننى عشت لأرى نساء بالملايين تهتف رافضة حتى قلت أننا ندخل عصر «لاءات» النساء بعد عصور عديدة من «نعم» التى لم تثمر إلا الاستكانة والخنوع. نعم التى نرددها نحن النساء فى كل مكان نختلط فيه بالرجال، نرددها فى البيت ومواقع العمل ومؤسسات المجتمع، لم نجن منها إلا قيودا أكثر وأشد على حريتنا ونقص فى إرادتنا وظلم فى نصيبنا من طيبات المجتمع وثماره المادية والمعنوية.

كم مرة صارحتك فيها برغبة جياشة تحثنى على الصراخ فى مكان عام. هى الرغبة فى التنفيث عن مخزون مكثف من المكبوت فى داخلنا. هى الرغبة فى الرفض العلنى لتوجيهات فى ذيل توجيهات تلقناها منذ كنا «فى اللفة» نحبو. لا تتحدثى بصوت عال. لا تختلطى بالرجال فى الشارع أو مكان عام. لا تردى على من أساء لك بالفعل أو باللسان. اسكتى على الظلم فى البيت وفى العمل فأنت إمرأة. أنت امرأة. أنت امرأة. أخيرا فهمت السر وراء إقبال المرأة المصرية فى الأحياء الشعبية على الانضمام لجنازة لا تعرف الميت فيها. إنما الجنازة فرصة نادرة للصراخ والندب وإعادة تدوير طاقة غضب لظلم واقع من الرجل سيد العائلة أو من سوء معاملة أو عنف منزلى أو اغتصاب متكرر. أنا الآن لا أتعرض شخصيا لشىء من هذا ولكن صراخى سوف يظل وسيلتى لإعلان غضبى لحريتى المنقوصة أو إرادتى المعتدى على حرمتها.

***

الطريق طويلة يا رفيقة دربى. فليعلم القاصى والدانى أننا لن نقبل بأقل مما طالبت به حواء. سنجتهد ونحسن الأداء ونواصل التفوق ونفتح أمام الرجال والسلطة كل أبواب الحوار. لن نغلق بابا فى وجه رجل كما فعل معنا. الجنة ليست كما يزعمون بعيدة عنا، الجنة تحت أقدامنا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف