الأهرام
عماد رحيم
الفلاح جان أم مجنى عليه؟!
علاقة الفلاح بأرضه الزراعية ليست علاقة عابرة، ولا يمكن النظر إليها بحيادية، فالأرض بالنسبة له أغلى من حياته، هى زاده وعرضه وشرفه، هى تاج رأسه ودرة جبينه، لذلك لابد من النظر لهذه العلاقة بمنظور أشمل وأعمق، لفهمها بشكل صحيح، وأيضا للتعامل معها فى إطار سليم.

المقدمة السابقة كانت ضرورية، لمحاولة تفسير لماذا تم البناء على الأراضى الزراعية بهذا العدد الكبير، وما الذى يدعو الفلاح الذى يعتز بأرضه ويعتبرها أغلى ما يملك، لأن يفقد جزءا منها ويبنى عليها.

بداية، لابد من التذكير أنه كانت هناك أحوزة عمرانية، مسموح بالبناء عليها، معنية بوجود مبان يقيم بها الفلاحون، تم تعديلها على مدى القرن السابق أكثر من مرة، كانت تؤوى الفلاحين، وفى أغلبها كان يلحق بها جزء يربى فيه المواشى، إضافة لتربية بعض الطيور، وحتى سبعينيات القرن الماضى، كان الفلاح يعتمد على نفسه تماما فى توفير حاجته الغذائية من ناتج أرضه وكذلك من استثماره فى تربية المواشى والطيور، وفى فترة مهمة، كان هناك مشروع البتلو، الذى كانت ترعاه الدولة، واستطاعت من خلاله تحويل الفلاح لعنصر منتج وفاعل، وهنا تحول الفلاح من فرد مكتف بتدبير حاجته الغذائية، إلى عنصر نشيط فى منظومة الإنتاج الكلى للدولة، وبالتالى كانت تتوافر اللحوم والدواجن بأسعار معقولة فى متناول يد السواد الأعظم من الشعب.

إلى أن استطاعت مافيا اللحوم المستوردة ضرب مشروع البتلو فى مقتل، وقضت عليه، ورويدا رويدا، فى ظروف صعبة وقاتلة، بات على الفلاح مصارعة الحياة فى توفير مستلزماته من سماد وتقاوى لأرضه، وكذلك توفير علف لتسمين مواشيه وطيوره، وتركناه يعافر ليستطيع إعالة نفسه كما كان يحدث سالفاً.

من الفلاحين، من نجح بجهد مضن فى الحفاظ على قامته، ومنهم من رحل مهاجرا بحثا عن لقمة العيش فى مكان بعيد، وشهدنا الهجرة الجماعية للعراق وغيرها من دول الخليج، وظللنا نشاهد ملء جفوننا معاناته ليل نهار مواجهاً صعوبات الحياة، كما تركناه وحيداً فى مواجهة السوق السوداء أوقاتاً كثيرة، تارة ينجح فى تحقيق الاكتفاء الذاتى لنفسه، وأخرى يلهث وراء البنوك لسد رمقه، وهكذا دارت الأيام ولياليها، وأصبح من الطبيعى أن يشترى الفلاح خبزه من «الطابونة»، بعد أن كان ذلك من الكبائر!

وأكتفى غالبيتهم بمتابعة الزراعة باعتبارها مصدر رزقهم الوحيد! وبعض منهم يحاول تربية المواشى وكذلك الطيور لتكون عونا فى مواجهة نفقات الحياة.

ومع التطور السكانى المفزع، نسينا أو تناسينا أن هناك تطورا سكانيا أصاب كتلة الفلاحين، وحدث تمدد لهذه الطبقة مثلها مثل باقى الطبقات، ولكنهم كانوا أكثر تمددا، لأن موروثهم الثقافى كان يعمل على زيادة النسل كأحد المعينات فى الزراعة، وأمسى عليهم البحث عن بدائل توفر لأبنائهم السكن الكريم، وهنا ُوضع الفلاح أمام خيارين أحلاهما مر، الأول أن تتسع داره لأبنائه وأحفاده، وهذا خيار قاس لدرجة يصعب تحملها، أو أن يبنى لذريته بيتا على جزء من أرضه الزراعية، رغم علمه بعدم قانونية هذا العمل! ورغم غلاوة أرضه عليه، فإنه بهذه الكيفية يقتطع جزءا من دخله الوحيد صاغراً!

وحدث ما رأيناه من تمدد عمرانى كبير، وتعد واضح على الرقعة الزراعية، وأعلنا الحرب الضارية على هذا التعد، واستندنا للمادة 29 من الدستور، التى تنص على أن الزراعة مقوم أساسى للاقتصاد الوطنى، وتلتزم الدولة بحماية الرقعة الزراعية وزيادتها، وتجريم الاعتداء عليها، كما تلتزم بتنمية الريف ورفع مستوى معيشة سكانه وحمايتهم من المخاطر البيئية، وتعمل على تنمية الإنتاج الزراعى والحيوانى، وتشجيع الصناعات التى تقوم عليهما، وتلتزم الدولة بتوفير مستلزمات الإنتاج الزراعى والحيوانى، وشراء المحاصيل الزراعية الأساسية بسعر مناسب يحقق هامش ربح للفلاح، وذلك بالاتفاق مع الاتحادات والنقابات والجمعيات الزراعية، كما تلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الأراضى المستصلحة لصغار الفلاحين وشباب الخريجين، وحماية الفلاح والعامل الزراعى من الاستغلال، وذلك كله على النحو الذى ينظمه القانون.

تمسكنا بتجريم الاعتداء عليها، وفاتنا النظر بتمعن فى بقية المادة، التى تنص على تنمية الريف وحماية سكانه .. إلخ.

الآن يتم النظر فى إعداد قانون للتصالح فى مخالفات البناء، بشروط تراعى مصلحة المواطن والدولة، فهناك من لا يملكون ملجأ يحميهم؟ وسيقت مبررات للتصالح أراها واقعية ومنطقية وعادلة، كما تواترت الأنباء الموضحة لعدد المستفيدين من هذا القانون، الذى يخدم عددا كبيرا جدا، كثير منهم لا ذنب له فى السكن فى وحدة مخالفة. ومن منطلق رعاية من الدولة لأبنائها، وحماية لهم يأتى العمل على قانون التصالح فى مخالفات البناء.

ولكن لماذا لا يتم النظر فى مخالفات البناء على الأراضى الزراعية، بنفس زاوية النظر لمخالفات البناء فى الأحوزة العمرانية، خاصة أن الأراضى الزراعية التى تم البناء عليها فقدت خصوبتها وصلاحيتها للزراعة، وبتصميمنا على عدم التصالح، نكون خسرنا مباني كانت تؤوى الكثيرين، كما زدنا معاناة فئة آلمها كثيرا الشعور بتجاهل الدولة لها عقود مريرة مضت، وبدلا من البحث عن حل لمشكلاتهم المتعلقة بوجود سكن آمن لأبنائهم،«مثل باقى فئات المجتمع» والتيسير عليهم لإعادتهم مرة أخرى لمنظومة الإنتاج.

نزيد الطين بلة، ونحيطهم بإجراءات «سليمة!» ولكنها تحول حياتهم لمعاناة دائمة، فرفقا بهم، وبأبنائهم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف