صحيح أن الولاء للوطن والاستشهاد من أجله يعد قيمة فورية، تعكس حقيقة ولاء الشهيد للوطن، وصحيح أيضًا أن الشهيد لحظة رحيله يتبدى كأنه يوصى زميله بقوله «عليك أن تشق طريقًا للحرية»؛ وصحيح أن المواطنة استحقاق يسبق كل اكتساب ويبقى بعده؛ وما أن تقوم المواطنة تتهاوى الانتماءات الأخري، وصحيح أيضًا أن الوطن يشكل لكل مواطنيه القيمة التى لا تعدلها قيمة غيره، انطلاقًا من أن الوطن لا يمثل لمواطنيه معنى الخضوع؛ بل إن المواطنين هم الذين يستشعرون بالمسئولية تجاه الوطن وحتمية الولاء له، انطلاقًا من أن المواطنة ارتباط بوحدة الأرض، بوصفهما حصاد المولد والنشأة اجتماعيًا وثقافيًا؛ إذ فى ظل ذلك السياق يكتسب المواطن مسئولية الحفاظ على الوطن وعدم التفريط فى استحقاقاته؛ لذلك عندما انطلقت جماعات الإرهاب المستترة التى تعمل بالوكالة أو غيرها، وراحت وفقًا لأهداف صانعيها تداهم المواطنين بالقتل وتخريب الوطن، ترسيخًا لحمولة المعنى الذى حملته تلك الجماعات الإرهابية بانتهاكاتها المرسومة، لم تفلت تلك الجماعات الإرهابية التى تعمل بالوكالة، من اقتدار الحضور المعرفى للقيادة المصرية التى لا تتعامل مع الأحداث وفقًا لردود أفعال آلية؛ بل تمارس استراتيجية استشعار المعنى والبحث عن الدلالات وصياغتها ضمن مسيرة عقلانية تأويلاً وتعليلاً، لذلك فإنه انطلاقًا من الولاء للوطن، ومن السيادة والاستقلال وشجاعة المبادرة، والاختراق إلى ما لم يتحقق بعد، أعلن الرئيس السيسى أنه سيستخدم القوة الغاشمة دفاعًا عن الوطن. إن خطاب الرئيس يؤكد أن ثمة معاينة للراهن بوصفه الأحق بسرعة المواجهة؛ لذا استدعى الرئيس تلك القوة واستقدمها بتاريخية وجغرافية محددتين، هما عام 2018، وعلى أرض سيناء التى واجهت هجومًا إرهابيًا استهدف تحديدًا «مسجد الروضة» وأسفر عن قتل وإصابة خمسمائة مسلم مصرى فى أثناء تأديتهم صلاة الجمعة، وتبدت المجزرة بلا فاعل، حيث لم تعلن أى جماعة إرهابية مسئوليتها عن الهجوم، فتجلى الهجوم لغزًا مداهمًا، لا يتقيد بإعلان معتقدى يتكئ عليه، فالمعتقد هو منظومة من الأفكار لا يمكن أن تعرض نفسها إلا بوصفها حقائق، ولا بد للمعتقد أن يحقق مضمونه فى الواقع بجدارته كى تلتصق الجماعة بالمجتمع، لكن الجماعة الإرهابية التى ارتكبت هذه المجزرة تخطت كل الخواص؛ حيث إنها بلا خواص سوى القتل. صحيح أن الهجوم فى البداية أنتج صدعًا مفاجئًا فى استيعاب مغزاه الحقيقي، لكن سرعان ما تم إدراك دلالاته المباشرة، بأنه محض إرهاب بالوكالة يستهدف التنافر والتنافى لكل أهل سيناء دفعًا للمغادرة رعبًا حتى يمكن أن تتم لعبة الاستبدال، بتوطين الفلسطينيين بالتوسع داخل سيناء، وفقًا للصفقة المعلومة بين أمريكا وإسرائيل وجماعة الإخوان أيام حكمهم، لرفض إسرائيل حل الدولتين، وحل الدولة الواحدة؛ طمعًا فى تثبيت هويتها، وفقًا لسياسة الإخضاع، حيث كل جوار لا يخضع لها يشكل تهديدًا لوجودها.
إن إسرائيل تعيش وهم القطيعة الشاملة والجذرية مع الفلسطينيين، وتمارس النفى الملح لوجودهم باستبعادهم وإقصائهم وإزاحتهم عن أرضهم، ودفعهم إلى اختيار عبوديتهم المحتومة، حتى عندما اقترح «إسحاق رابين» عام 1995، مقايضة الأرض بالسلام، قتله يهودى متعصب، ثم بعد ذلك تكاثرت المستوطنات، وأيضًا راح «آرييل شارون» يمارس دفع اليهود إلى زالاستيلاء على مزيد من الأراضى وانتزاعها من أصحابها توسيعًا لمناطقهم» وفقًا لقوله: «كل شيء ينتزع سيكون فى أيدينا، وكل ما لا ننتزعه سيظل فى أيديهم» حتى إنهم حركوا منازلهم المتنقلة إلى مواقع أمامية فى الضفة المحتلة، وعندما أراد «شارون» الانسحاب من غزة، رفضوا واتهموه بالخيانة، فأصيب بسكتة دماغية وغيبوبة حتى مات. إن إسرائيل ما زالت تمارس الانفلات من كل التزام، وتبديد الحقوق والمفاهيم والحقائق، وتطرح قناعًا عكسيًا يتأسس على أوثانها الفكرية، وتنشر بدائلها لاستباحة الحقوق بإقصاء أصحابها ليصبح الحق مقصيًا، ولا تقبل بديلاً عن ادعاء الحق المحض. صحيح أن سلوك النزاهة إزاء الحقيقة يتخطى بحسم إرادة الاغتصاب والاستبداد التى يسكنها التميز والإقصاء، لذا فإن الكاتب «جيرتشوم جورينبرج» - المولود فى الولايات المتحدة، ويعيش فى القدس- يتبدى فى كتابه «الإمبراطورية العرضية إسرائيل وولادة المستوطنات» أحد الذين لم يغيبوا الحقيقة؛ إذ يكشف بوضوح كيف حرمت إسرائيل الفلسطينيين من أول حقوقهم وهو حق الدفاع عن الوجود. يقول الكاتب: «كان الغرض من إقامة المستوطنات منذ يوليو عام 1967، حتى هبوط أول جندى إسرائيلى من سيارته الحربية إلى مرتفعات الجولان، هو خلق حقائق سوف تحدد الوضع النهائى للأرض، وتشكل الواقع السياسى قبل إجراءات المفاوضات، وبحلول صيف عام 2005 قبيل الانسحاب من غزة، كانت الحقائق كالتالي: 250000 مستوطن يعيشون فى 125 مستوطنة فى الضفة الغربية، وأيضًا 180000 آخرين يعيشون فى المناطق الملحقة بالقدس الشرقية، وهى أرض تعتبرها إسرائيل جزءًا من دولتها، فى حين تعتبرها أخرى مناطق محتلة، وقد أقيمت 32 مستوطنة فى مرتفعات الجولان التى ضمتها إسرائيل عام 1981 حيث عاش فيها 160000 إسرائيلي، وحتى أغسطس عام 2005 أقام 9000 إسرائيلى فى قطاع غزة داخل 21 مستوطنة» ثم يطرح الكاتب تحديدًا وظيفة هذه المستوطنات بقوله: «أتاحت المستوطنات والطرق الرابطة بينها، والتى لا يطؤها العرب الفرصة للإسرائيليين لتقطيع المناطق الإسرائيلية تقطيعًا يحول دون تأسيس دولة فلسطينية قابلة للحياة، كما أن بناء الجدار العازل قد عقد قضية الحدود، حيث يقطع الجدار مزيدًا من الأراضى الفلسطينية، ويقسم مجتمعاتها ليخلق مقاطعات معزولة تتقيد فيها الحركة».
إن إسرائيل تستهدف توطين الفلسطينيين تحت قبة الاستبداد المفروض عليهم، وفقًا لثنائية الإخضاع والاتباع؛ لذا جاء قرار الرئيس «دونالد ترامب» منفردًا بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، باعتبارها عاصمة دولة إسرائيل، وذلك ما يبرز الجنوح المنفرد؛ لهذا أصدرت مصر بيانها الذى أعربت فيه عن استنكارها لقرار الولايات المتحدة باعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل، بوصفه قرارًا أحاديًا مخالفًا لقرارات الشرعية الدولية، ولن يغير من الوضعية القانونية لمدينة القدس.
ولأن المواطنة استحقاق يسبق كل اكتساب ويبقى بعده، ولأن الولاء للوطن هو رهان أن تظل الحرية الاستحقاق الأصيل للوطن، وأيضًا لأن الحقيقة استحقاق، وأن الإنسان يستحق وجوده، بقدر ما يكون معنى للخير، ومعنى للحقيقة؛ لذا فالتحية واجبة للقوات المسلحة والشرطة قادة وجنودًا، الذين لديهم مفهوم الولاء لحق الدفاع عن الوطن يتقدم على رابطة الدم.