عائدٌ أنا من الإسكندرية؛ عروسِ البحرِ الجميلة. درّةُ تاجِها مكتبتُها؛ مكتبةُ الإسكندرية العريقة. على مدى ثلاثة أيام؛ حضرتُ هناك جلسات المؤتمر الدولى السنوى الرابع لمواجهة التطرف. وبعد انتهاء العمل؛ فى شرفةِ المكتبةِ وقفْتُ. بعد أجواء المناقشاتِ والرؤى والأفكار؛ تكفيكَ الآن نظرةٌ هادئةٌ إلى البحرِ الممتد، ستُشعركَ حتمًا بالسلامِ والصفاء، لكنها أيضا لا شكَّ موحيةٌ إليك؛ بالغموضِ، والحَذَر!.
الحَذَرُ؛ بل الترقب والقلق، مشاعرُ تتسللُ إليك، بعد حضور جلسات المؤتمر الكبير، الذى شارك فى أعماله أربعمائةُ مثقفٍ مصرى وعربى وأجنبي. أسبابُ تلك المشاعر قد تبدو متباينة؛ لكنها - فى الواقع- متكاملة. ويمكن تلخيصها بأنها: قلقٌ من «المؤامرة»، وقلقٌ على «الثقافة»، وفى ظل هذا وذاك؛ تجرى معركةُ مواجهة التطرف والإرهاب. على أى حال؛ دعكَ من العناوين والملخصات، فالتفاصيل شارحة.
«المؤامرةُ» على هذا الوطن، والأخطارُ المحدّقةُ به، التى تسعى إلى استهدافِه وخنقِه، حقائقُ واقعة لا ينكرُها إلا المنحازون، وقد أكدتْها فى المؤتمر معلوماتٌ أدلى بها المتحدثون. إليك الأمثلة: اللواء محمد إبراهيم حذّر من نشاط العمليات الإرهابية مع قرب موعد إجراء الانتخابات الرئاسية، لممارسة ضغوط على الدولة، مشيرا إلى تحديات أخرى؛ منها السياسات المعادية تجاه مصر من بعض الدول، مثل قطر وإيران وتركيا. والدكتور محمد مجاهد الزيات مستشار المركز القومى لدراسات الشرق الأوسط، حذّر أيضا من الخطر القادم من ليبيا، نتيجة انتقال قيادات التنظيمات الإرهابية من سوريا والعراق إليها، كاشفًا أن هناك ثلاثة عشر قائدًا من تنظيم «داعش» ليس معروفًا مكانهم حتى الآن. أما العميد خالد عكاشة رئيس المركز الوطنى للدراسات الأمنية، فقد أكد أن ليبيا تحولت إلى محطة لاستقبال الإرهابيين وتدريبهم، موضحًا أن التضييق على المنظمات الإرهابية فى العراق وسوريا الآن لا يوازيه جهدٌ مماثلٌ فى ليبيا، بل - بالعكس- هناك تعميقٌ للصراعاتِ بشكلٍ متعمد، وحضورٌ كبير للقوى الدولية لفرض مصالحها.
«الثقافةُ» فى هذا الوطن، وحالُها، واختناقُ المجال أمامها، وتراجعُ الاهتمامِ بها كسلاح واجب فى بناءِ الإنسانِ وتحرير وعيه، هى - أيضًا- حقائقُ واقعة لا ينكرُها إلا المنحازون، وقد أكدتْها فى المؤتمر شهاداتٌ أدلى بها المتحدثون، وإليك الأمثلة: الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة الأسبق حذّر قائلا إنه برغم الإنجازات «المادية» الكبيرة الواضحة؛ لكن - مع هذا- لا توجد إرادة حقيقية للتغيير الثقافى فى مصر، كاشفًا أن نحو 90% من ميزانية وزارة الثقافة تذهب أجورًا لموظفيها، وأنه وجدَ أن نصيبَ الفرد من الشعب فى ميزانية الثقافة بمصر يُقدّر بنحو جنيه واحد فى العام تقريبًا. أما الدكتور أسامة الغزالى حرب الكاتب الصحفى فقال إن مصر ليست دولة منتجة لسلعة «صناعية» مهمة أو «زراعية» كبيرة، وإنها فى الأساس كدولة هى «قوة ثقافية» مهمة ذات دور وتأثير، فإذا فَقَدَتْ الإحساسَ بذلك تراجعَ دورُها، محذرًا مما سماه «الكارثة»؛ المتمثلة فى أن الدولة الآن ليس لديها وعى بهذه المسألة.
وهكذا؛ كما ترى؛ الحَذَرُ والترقّبُ والقلقُ؛ كلُها مشاعرُ- فى الاتجاهين- واجبة؛ لأجل الدفاعِ عن «بناء الدولة» واستقرارِها، فى مواجهة «المؤامرة»، ولأجلِ البدءِ فى «بناء الإنسان» بالفكرِ الحرِ عبر «الثقافة»، وفتح المجال العام أمامها. ولعل ما يكملُ الصورةَ هنا هو تلك الإشاراتُ والتنبيهاتُ، التى أطلقها الدكتور مصطفى الفقى مدير مكتبة الإسكندرية، وهى إشاراتٌ وتنبيهاتٌ متداخلةٌ، لكن متكاملة، حيث قال إن الحديثَ عن تجديد الفكر الدينى بدأ منذ سنوات، لكن النتائجَ مازالت - برغم بعض التقدمِ- محدودةً من كل الجهات، وإنه دون إصلاحِ التعليم لا قيمة لأى مؤتمرات، كاشفا فى الوقت نفسه عن توصياتِ رئيسِ الجمهوريةِ لمكتبة الإسكندرية بأن «تنزل للناس»، لا سيما فى المحافظات، لمنع حشو الأفكار المغلوطة فى عقول الأطفال. ثم جاءت تصريحات الفقى الأسبوع الماضى لبرنامج «يحدث فى مصر» الذى يقدمه الإعلامى شريف عامر، على قناة «إم بى سى مصر»؛ بأن الرئيس وجّه اهتمامه فى المرحلة الأولى من حكمه إلى البنيةِ التحتية، وأنه يبقى الآن الاهتمامُ بالتعليم والثقافة والقوة الناعمة، فى المرحلة الثانية.
أخيرا.. عدتُ الآن من الإسكندرية؛ عروسِ البحرِ الجميلة، ومازالت فى عينى تلك الصورة، من شرفةِ مكتبتِها العريقة؛ صورةُ البحرِ الممتد، ذلك الكيان الهائل، الهادئ يومًا، والصاخب يومًا؛ ذلك الكيان المستقر، رغم العواصفِ والأنواء؛ ذلك الكيان الذى قد تُشعرُك النظرةُ إليه بالسلامِ والصفاء، أو الغموضِ والحَذَر، لكنك إذا ما قررتَ ألا تكتفى بالنظر، بأن تغادر شاطئَ السعادة الغامرة أو القلق العميق، وأن تقترب؛ فإن مشاعرَ أخرى سيبثها البحرُ ذاتُه فى ذاتِك؛ مشاعرَ الإصرارِ والتحدي، والقدرةِ على قهرِ الأمواج، والغوصِ فى الأعماقِ، حتى بلوغ الأمل؛ الأمل فى الدولة القوية والإنسان الحر معًا.