الأهرام
جمال عبد الجواد
المصريون والسياسة
المصريون قليلو الاهتمام بالسياسة. هذا هو الاستنتاج الذى يتفق عليه كثيرون من المتابعين للشأن المصري. النسبة المنخفضة لأعضاء الأحزاب السياسية بين السكان، والتى لا تتجاوز الواحد بالمائة فى أحسن الأحوال، تشهد على اهتمام المصريين المحدود بالسياسة. معدلات توزيع الصحف اليومية فى مصر بالنسبة لعدد السكان أقل مما هى عليه فى أغلب البلاد العربية، فالمواطنون فى المغرب والعراق والخليج والأردن يقبلون على قراءة الصحف بمعدلات أعلى من نظرائهم المصريين. كان هذا هو الحال قبل زمن الإنترنت والسوشيال ميديا، ومازال هو الحال بعد دخول العصر الرقمي. الملاحظة ذاتها تنطبق على توزيع الكتاب المطبوع، وانخفاض الاهتمام بالقراءة يرتبط بانخفاض الاهتمام بالشأن العام والسياسة.

باستثناء بعض الفترات الاستثنائية، مثل مرحلة الاضطراب السياسى التى تلت ثورة الخامس والعشرين من يناير، تبين الدراسات أنه بالمقارنة بشعوب العالم الأخري، فإن السياسة لا تعتبر شأنا مهما فى حياة المصريين، وأن المصريين يتابعون الشئون السياسية بدرجة أقل بكثير من أقرانهم فى أغلب البلاد الأخري. ففى بحث القيم العالمية لعام 2005، جاء ترتيب مصر الثالث والثلاثين بين 49 دولة من حيث درجة أهمية السياسية فى حياة المواطنين. نتيجة مشابهة نجدها فى الأبحاث التى تركز على البلاد العربية، ففيها يظهر المصريون درجة محدودة من الاهتمام بالسياسة مقارنة بأقرانهم فى البلاد العربية.

اهتمام المصريين المحدود بالسياسة ليس ظاهرة وليدة اليوم، ولكنها ظاهرة لها جذور فى التكوين التاريخى للشعب المصري، وفى الطريقة التى تكونت بها الثقافة السياسية للمصريين. فى مقال بعنوان «شباب الوطن تحت مجهر الفكر»، كتب الدكتور محمد مندور فى عام 1955، عن تجربة قام بها بين طلاب قسم الصحافة ومعهد الصحافة بكلية الآداب، وكان عدد طلابه فى هذا الوقت 300 طالب. طلب الدكتور مندور من الطلاب الكتابة عن أربعة موضوعات هى المساعدات المالية الأمريكية، وتركيا والعالم العربي، والمؤتمر الإسلامي: أهدافه ووسائله، ومؤتمر جاكرتا والدول العربية. الموضوعات الأربعة كانت من القضايا الساخنة التى اهتمت بها صحافة ذلك الزمان. يقول الدكتور مندور «لم يفزعنى من كل هذه المقالات غير شيء واحد هو الجهل وضعف الثقافة السياسية ضعفا محزنا، يزداد تأثيرا فى نفسى كلما تذكرت طلبة الجامعات الأوروبية الذين عاشرتهم سنوات طويلة... مع أن أولئك الطلبة الأوربيين لم يكونوا طلبة صحافة، أى طلبة لديهم ميل أو اهتمام خاص بالمسائل العامة».

أجرى الدكتور مندور تجربته عن المعرفة السياسية لطلاب قسم الصحافة فى عام 1955 فى زمن فتوة ثورة يوليو، ووسط كل الزخم السياسى الذى خلقته هذه الثورة، والسياسات التعبوية التى طبقتها. كان هذا هو الحال، بينما مصر فى ذلك الوقت مازالت تعيش فى ظل ما تبقى من أجواء حرية التفكير والتعبير التى تميزت بها مصر فى حقبة الملكية الليبرالية، بينما كانت قيادة نظام يوليو تضيف للزخم الفكرى الموروث نفسا راديكاليا تعبويا كفيلا بتسييس الجماهير، خاصة الطلاب، فى زمن كانت فيه المدارس ومؤسسات التعليم تستخدم كمنصات للدعاية والتعبئة الثورية على يد النظام الجديد.

خبرة مشابهة يسجلها الدكتور سعد الدين إبراهيم بعد ذلك بعشر سنوات. يحكى الدكتور سعد الدين إبراهيم فى سيرته الذاتية عن تجربته مع الوعى السياسى للطلاب المصريين فى الولايات المتحدة فى منتصف الستينيات، أى بعد نحو عشر سنوات من تجربة الدكتور محمد مندور مع طلاب قسم الصحافة. كتب الدكتور سعد الدين إبراهيم أن «الفلسطينيين والسوريين والعراقيين هم الأكثر تسييسا بين الطلبة العرب، وكان المصريون والسعوديون أكثر عددا وأقل تسييسا». كتب الدكتور إبراهيم عن المؤتمر السنوى للطلبة العرب فى الولايات المتحدة وكندا، وعن أول مرة يحضر فيها هذا المؤتمر فى عام 1963. حكى الدكتور إبراهيم عن أن المصريين بين رؤساء فروع منظمة الطلاب العرب فى أمريكا الشمالية لم يزيدوا على العشرين من بين 110 فروع، رغم أن المصريين هم الأغلبية بين الطلبة العرب. كتب الدكتور إبراهيم عما لاحظه من أن «معظم رؤساء الفروع المصريين (المفترض أنهم قيادات) تنقصهم المهارات التنظيمية، كما ينقصهم الوعى السياسى».

هذا هو ما كتبه محمد مندور وسعد الدين إبراهيم عن المصريين فى الخمسينيات والستينيات، فهل كان الأمر مختلفا قبل ذلك؟ لا أظن، فكثير من الأعمال التى تم نشرها عن الفترات السابقة تشير إلى وجود جفوة بين عموم المصريين من ناحية، والشأن العام وأمور السياسة من ناحية أخري. كتب محمد لطفى جمعة مذكراته عن فترة دراسته فى المدرسة الخديوية فى الفترة السابقة على ثورة 1919، وتحدث عما لاحظه على الغالبية من الطلاب، فقال إنهم «كانوا يقبلون على التعليم المدرسى بنية أن يأخذوا شهادة ليتوظفوا بها، وقد نجح كثير منهم وصاروا فى الحكومة باشوات وبكوات وأفندية، وهم فى غاية الغفلة من الناحية السياسية والقومية والثقافية»، فهل يختلف هذا عما يمكن لأحدنا أن يكتبه عن طلاب اليوم؟

كتب لطفى جمعة عما سمعه من الأستاذ الإمام محمد عبده قبل وفاته فى عام 1905، فقد عبر الإمام عن «آلامه وغيظه من جهل المجموع ومن عدم إدراك الأمة حقائق الأمور، وأن أخلاق الغرب فى السياسة والاجتماع أرقى من الشرق بكثير، وأن كل صالح من الأعمال والآراء والنظم إذا دخل الشرق فسد». لا يختلف رأى الإمام محمد عبده الذى قاله قبل أكثر من مائة عام عما يمكن أن تسمعه اليوم من كثير من المصريين، وعما يكتبه اليوم الكثير من كتابنا ومثقفينا، فهل فى ثقافة أمتنا فساد موروث، يجعل الكثيرين منا يتعاملون مع السياسة كمجال لاقتناص المنافع، وليس كنشاط يستهدف الخير لعموم الناس؟ وهل فى هذه الثقافة عميقة الجذور ما يدفع الناس بعيدا عن الاهتمام بالشأن العام، وفى القلب منه السياسة؟ نعم هناك شيء ما فى ثقافتنا الموروثة، لكن ما هو هذا الشيء بالضبط، وما هى أسبابه، وهل من طريق لتجاوزه؟ هذا هو ما أدعو مثقفينا للتفكير فيه والحوار حوله.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف