الأهرام
أحمد يوسف أحمد
راجح داوود وأسلافه المبدعون
احتفت موريتانيا الشهر الماضى بتكريم الموسيقار المصرى المبدع راجح داوود بمناسبة فوز اللحن الذى وضعه للنشيد الوطنى الموريتانى الجديد فى المنافسة التى نظمتها الحكومة الموريتانية لتلحين هذا النشيد، وكانت قد طلبت من نظيرتها المصرية ترشيح موسيقى مصرى لهذا العمل فرشحت وزارة الثقافة راجح داوود فانكب عليه بموهبته وجديته المعهودة واطلع على تاريخ موريتانيا واستمع بكثافة إلى موسيقاها حتى توصل إلى سماتها وشخصيتها, وألف لحنه المتفوق الذى يسهل على المرء عندما يستمع إليه أن يعرف لماذا اختاره الموريتانيون. فإذا كان اللحن قد أثار لدى كل هذه المشاعر الحماسية الدافقة التى لا شك أن لكلمات النشيد التى وصف داوود معانيها بالرقى دورا فى إثارتها فما بالنا بالموريتانيين الذين يتحدث النشيد كلمات ولحناً عنهم، والطريف أن داوود لم يكن يعلم أنه فى منافسة مع أربعة آخرين, اثنان منهم من موريتانيا نفسها فضلاً عن موسيقار تونسى وآخر سودانى، كما أنه لم يعلم أن التوقيت المحدد للانتهاء من اللحن مرتبط بالعيد الوطنى الموريتانى فى 28 نوفمبر إلا عندما حاول تأجيل تسليم اللحن عن الموعد المحدد فى 16 من الشهر نفسه.

وباعتبارى لست من المتابعين للحياة الموسيقية المصرية فى عمومها فإن علاقتى بموسيقى راجح داوود بدأت من إبداعاته فى الموسيقى التصويرية لأفلام المخرج الرائع داوود عبد السيد، وأذكر أن اهتمامى كان فائقا بمعرفة اسم مؤلف الموسيقى التصويرية لفيلم «الكيت كات» وفعلت الأمر نفسه فى «مواطن ومخبر وحرامى» وهو فى تقديرى واحد من الأفلام التى تجلس دون منازع على القمة فى صناعة السينما المصرية، غير أننى أشهد لنفسى أننى أثناء مشاهدتى فيلم «أرض الخوف» قلت ان موسيقاه الرائعة لابد وأن تكون لراجح داوود وكنت سعيدا بصدق حدسى، وقد بلغت هذه الموسيقى من الإبداع ما جعلها أول ما يقفز إلى ذهنى عندما يذكر هذا الفيلم رغم إبداع بطله الراحل أحمد زكى، وبعدها بدأت أِبحث عن موسيقى الرجل أينما وجدت، وعندما علمت أنه ألف مقطوعة أهداها إلى شهداء 25 يناير بحثت عنها حتى استمعت إلى تسجيل لها فى حفل أقامته مكتبة الإسكندرية فى يناير 2014 بمشاركة عازفة الفلوت العالمية إيناس عبد الدايم, حيث استُقبلت المقطوعة التى انتهت بنغمات النشيد الخالد «إسلمى يا مصر» استقبالاً إسطوريا، وها هو راجح داوود يضيف الجديد إلى إبداعاته ولكن على الصعيد العربى، ويقول داوود عن زيارته موريتانيا انه لم يشعر بأنه فى بلد آخر وإن اختلف وتحدث عن حرارة الاستقبال من الرسميين والمواطنين البسطاء وعن طيبتهم الفائقة, والتقى بفنانين موريتانيين وبالمقابل تحدثت الصحف الموريتانية عنه وعن موهبته وإبداعاته باستفاضة وكذلك عن أثر عمله على تعزيز العلاقات المصرية-الموريتانية.

بهذا الإبداع الجديد لراجح داوود ينضم إلى قائمة الموسيقيين المصريين المبدعين الذين لحنوا الأناشيد الوطنية لدول عربية، وربما تكون البداية بالنشيد الوطنى الليبى الذى لحنه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب فى 1955، والطريف أنه ظل معتمدا حتى قيام ثورة 1969 فاستُبدل به نشيد «الله أكبر» للموسيقار المبدع محمود الشريف، وهو النشيد الذى لحنه أثناء العدوان الثلاثى على مصر 1956، وأغلب الظن أن النشيد الذى لحنه عبد الوهاب قد اعتُمد مجدداً بعد انتهاء حكم القذافى، ولم أكن أعلم أن السلام الوطنى المصرى حتى عقد معاهدة السلام مع إسرائيل فى 1979 والمأخوذ عن لحن أغنية «والله زمان يا سلاحى» للموسيقار كمال الطويل قد اعتُمد فى العراق من 1963 وحتى 1981 حين قرر صدام حسين تغييره، وفى مطلع السبعينيات اعتمدت دولة الإمارات معزوفة الحن السلامب التى ألفها الموسيقار سعد عبد الوهاب الذى كان يعمل آنذاك مستشارا للأغنية الوطنية هناك كموسيقى للنشيد الوطنى، وفى السنة نفسها (1972) اعتمدت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية قصيدة «فدائى» التى لحنها الموسيقار على إسماعيل نشيدا وطنيا جديدا لفلسطين بدلاً من قصيدة «موطنى». غير أن القصة الأشهر فى هذا الصدد ترتبط بالنشيد الوطنى الجزائرى «قسما» الذى لحنه الموسيقار المصرى العبقرى محمد فوزى، ووفقا لكلام منسوب للدكتور محمد أبو الفتوح فإن الكلمات قد عُرضت على كلٍ من محمد عبد الوهاب وعلى إسماعيل لكن محمد فوزى احتج وكان معروفا بحماسه الشديد للثورة الجزائرية وطالب بأن يُعهد إليه بتلحين النشيد، غير أن المسئولين ترددوا لشهرته فى الألحان العاطفية فاشترطوا أن يُعجب قادة الثورة بلحنه وهو ما حدث بالفعل، والجميل أن الرجل لم يتقاض مليما عن اللحن بل لقد دفع للموسيقيين أجورهم، والأجمل أن ترد له الجزائر صنيعه بعد قرابة ستة عقود كأروع ما يكون الرد فيقرر الرئيس الجزائرى عبد العزيز بوتفليقة فى نوفمبر الماضى منح اسم محمد فوزى وسام الاستحقاق الوطنى وإطلاق اسمه على المعهد الوطنى العالى للموسيقى، ويتسلم حفيده المهندس عمر فوزى الوسام فى ديسمبر الماضى من رئيس مجلس الأمة فى حفل أُقيم بدار الأوبرا الجزائرية، ويتحدث عز الدين ميهوبى وزير الثقافة الجزائرى عن العلاقات الوطيدة بين الشعبين التى يجسدها لحن محمد فوزى الذى يتردد على ألسنة الجزائريين منذ ستين عاما.

ويضيف أن قرار رئيس الجمهورية نابع من وفاء الشعب الجزائرى تجاه «هذا الفنان المبدع الذى قدم للجزائر وللعالم أروع لحن لنشيد وطنى»، ويرد الحفيد الواعى بأن جده «قد خلق صلة بين مصر والجزائر لا أظن أنها ستنكسر»، وتتنازل العائلة نهائياً عن حقوق التأليف للدولة الجزائرية, أى إضافة تقدمها قوة مصر الناعمة متمثلة فى فنها لمكانة مصر العربية؟ وأى خطأ جسيم نرتكبه إن لم نهتم على نحو ممنهج بتعزيز هذه القوة وتخليصها من أى شوائب تعتريها وتقلل من مردودها الإيجابى على مكانة مصر ودورها؟

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف