الأخبار
نوال مصطفى
حكايات من لحم ودم
هل تخيلت يوما أنك - لا قدر الله - داخل سجن؟ تعيش مسلوب الحرية، بعيدا عن أهلك وأصدقائك وأحبابك؟ فكرة سلب الحرية نفسها مرعبة، انتزاع الحق في أن تفتح الباب متي شئت لتنزل تتمشي في الشارع تتنفس الهواء بلا قيد. مجرد تصور هذا يلقي في قلب الإنسان بخوف مبهم. تلك الفكرة القاسية القاتمة كانت محورا لعرض مسرحي مختلف في الإخراج وشكل المسرح والإضاءة والديكور تحت عنوان "المكان ده".
العرض يجري بشقة قديمة في شارع هدي شعراوي بوسط البلد، قسمها المخرج إلي مساحات تشبه الزنازين في السجن، إضاءة خافتة، حوائط مطلية باللون الأسود، الديكور كله يوحي بالسواد الذي يعيشه من ساقه قدره ليعيش هذه التجربة المريرة حتي لو كان مسجونا في قصر أو فندق، فالسجن هو السجن مهما كان المكان، يقوم العرض علي فكرة المعايشة أو المحاكاة لشكل السجن، يدخل المشاهد قاعة العرض بعدما يعطيه المنظمون جهاز "إم بي فور" مزود بسماعات ليجد نفسه في ساحة كبيرة مقسمة إلي غرف، ويستمع وهو يتجول بين الغرف إلي أصوات سجينات سابقات يروين قصصهن، ومعاناتهن خلف القضبان. كذلك يشاهد جملا مكتوبة بالطباشير علي الجدران المطلية باللون الأسود عبارة عن مقاطع من جمل جاءت علي أفواه النساء وهن يروين حكاياتهن مثل " أنا قضيت 10 أعياد ومناسبات في السجن" و"اتعلمت إنه مبيمسحش دمعتك إلا إيدك" و"السجن علمني أكون أقوي".
هذا العرض هو نتاج تعاون مشترك بين جمعية رعاية أطفال السجينات التي أشرف بكوني مؤسستها، وكل من مشروع بصي، وجمعية الفن للتنمية، ومؤسسة دروسوس. وهو مشروع يهدف إلي توثيق قصص السجينات السابقات، وتجسيد المعاناة النفسية التي يشعرن بها حتي بعد خروجهن من السجن بسبب الوصمة الاجتماعية، فهن يخرجن من السجن ليدخلن سجنا أكبر هو سجن المجتمع، بسبب الوصمة التي لا تفرق بين تهمة وأخري، وتطبع "أكلاشيه" سجينة سابقة عليها، حيث تتأثر تعاملاتها في الحياة بشكل كبير، لا تستطيع أن تتقدم للحصول علي قرض من أي بنك لأن صحيفتها الجنائية تحمل سابقة، وتجد أبواب الرزق موصدة في وجهها، لا أحد يوظف سجينة سابقة، يتنكر لها أقرب الناس، ويشعرون بالعار في الاقتراب منها. حتي الزوج في أحيان كثيرة يتخلي عن زوجته بمجرد دخولها السجن، ويطلقها. إنها عروض تهدف إلي لفت نظر المجتمع إلي قضية ما من القضايا الإنسانية التي يحتاج التعامل معها إلي رفع درجة الوعي لدي المجتمع، وتقريب الصورة الواقعية حتي نغير الصورة الذهنية التي غالبا ما تكون خاطئة وظالمة تجاه الفئة المستهدفة. نظرة المجتمع مهمة لإنقاذ ضحايا لفكرة خاطئة.
ذكرني هذا العرض المختلف بفيلم "سجن الوصمة" وهو فيلم وثائقي قصير، مدته 22 دقيقة، قمت بكتابة السيناريو والحوار له، وأخرجه نادر عيسي، الفيلم يجسد تلك المعاناة القاسية التي تعيشها هؤلاء النساء من خلال لقاءات حية معهن. كان هدفنا من إنتاج هذا الفيلم، أن ننقل تفاصيل المأساة التي تعيشها المرأة في هذا الموقف العصيب بكل تفاصيله علنا ننظر إلي السجينات السابقات خاصة سجينات الفقر والحاجة نظرة أكثر عدالة ورحمة.
أجمل ما في العرض المسرحي "المكان ده" هو الشكل الجديد الذي يدخل المشاهد في قلب أجواء السجن من خلال ديكور بسيط وجديد، باستخدام الأشياء الخاصة بالسجينات من جلاليب بيضاء معلقة علي مسمار علي الحائط، وسجادة صغيرة مفروشة علي الأرض، وبعض أدوات المطبخ التي يستعملنها هناك، كذلك وضع القائمون علي تنفيذ العرض كراسات مكتوبة بخط السجينات يعبرن فيها عن أنفسهن، ومشاعرهن الحقيقية وهن داخل تلك التجربة الإنسانية الصعبة.
أؤمن أن الفن هو أسرع وأقوي وسيلة لتغيير المجتمع، وهذا العرض أثبت ذلك فعلا من خلال الإقبال غير العادي من الجمهور خاصة من الشباب لمشاهدته، وتأثر الكثيرين بما سمعوا، وقرأوا من مقاطع علي الجدران. إنه فعلا عرض يستحق المشاهدة والتقدير
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف