جمال سلطان
كيف أضرت الحركات الإسلامية بالدين والسياسة معا (2/2)
الظاهرة الثانية التي نتجت عن ظهور الحركات الإسلامية وانتشارها ، أن النظم السياسية الحاكمة على التوالي استغلت فقرها السياسي وانعزاليتها عن بقية القوى السياسية فوظفت ذلك في حماية النظام الجديد وإحكام سيطرته والاستفادة من النفوذ الجماهيري للحركات الإسلامية في تأمين النظام الجديد ، خاصة عندما تتهدده بدائل سياسية مدنية ممكنة ، فكانت الحركات الإسلامية ـ دون قصد ـ تمثل ذراعا للقمع والسيطرة ، حدث ذلك عندما كلف الملك حكومة أقلية يمثلها "إسماعيل صدقي باشا" لتشكيل الوزارة ، وممارسة قمع وتهميش واسع للأحزاب الكبيرة والحركة السياسية بشكل عام ، فلم يجد من يخدم على مشروعه سوى الإخوان وقتها ، وكان ذلك أحد أسباب الصدع الذي حدث بين الشيخ البنا والأستاذ أحمد السكري ، وانتهت التجربة بعار سياسي لحق الجماعة ، ثم حدث ذلك عندما قفز مجموعة الضباط على السلطة في يوليو 1952 ، وأطاحوا بالملك فاروق وبالنظام السياسي بكامله بعد ذلك ، وكان الضباط يرتعبون من الثقل الشعبي الكبير لحزب الوفد ، وخبرة وعنفوان الأحزاب المدنية الأخرى التي نشطت خلال السنوات الأربعين السابقة ، فكان أن استغل العسكريون انعزالية الحركة الإسلامية عن التيار الوطني ، وانفصال مشروعهم عن المشروع الوطني العام ، فاستدعتهم بذكاء لتمثيل فضاء شعبي بديل يسمح لهم بسحق الأحزاب المدنية وعلى رأسها الوفد وتدمير المنظومة السياسية بكاملها ، وهناك تراث مؤسف جدا لتحريض الإخوان وقتها على تصفية الأحزاب وسحقها وسحق أي احتجاجات عمالية ورفض الديمقراطية كأنها رجس من عمل الشيطان ، حتى إذا ما تم المقصود ، قام النظام الجديد بتصفية الجماعة بكل عنف وقسوة لمعرفتهم بثقلها الشعبي .
والأمر نفسه حدث في بداية عهد السادات ، وكان الرئيس الجديد القلق من نفوذ رجال عبد الناصر في الدولة وفي الشارع ، في حاجة ماسة إلى قوة شعبية تدعمه ، فأفرج عن معتقلي الجماعة وكان يرسل رجاله لمقابلة القيادات لطمأنتهم وتأكيد أن "الرئيس" يفتح لهم الباب واسعا لعودة النشاط ومنحهم مساحة واسعة من الحركة المؤمنة من تدخل وملاحقة الأجهزة ، ثم حدث ذلك في معظم فترة حكم مبارك أيضا ، فكان يحرص على منح الجماعة مساحة حركة كافية لامتصاص وتهميش الباقين ، سواء في البرلمان أو النقابات أو المجتمع المدني ، رغم أنهم محظورون قانونا ، وسمح لهم بافتتاح مقار كبيرة ، رغم أن القانون لا يتيح لهم ذلك ، وعندما ترنح نظام مبارك على وقع تفجر ثورة يناير ، ذهب إليهم اللواء عمر سليمان ، رجل مبارك القوي ، واجتمع مع بعض قياداتهم للوصول إلى حلول ووعود ، لأن سليمان كان يعرف "اللعبة" ومن يستهدف من ، لكنه يدرك أن الشارع وقتها هو رمانة الميزان ، فحاول أن يستفيد من الجماعة لتفريغ الميدان وقلب الطاولة على "الآخرين" ، لكن الوقت كان قد فات ، وظهر منسقون جدد للعبة جديدة .
ومع حكم المجلس العسكري الجديد بعد ثورة يناير ، عاد السيناريو من جديد ، والتنسيق الكامل بين المجلس وبين الجماعة ، وعاد المجلس يستخدم الجماعة كدرع جماهيري ضد قوى الثورة ورموزها المدنية ، لأنه كان يدرك أن الذراع الشعبي القوية بالفعل هي ذراع الإسلاميين ، ودافع الإخوان والإسلاميون بقوة عن المجلس العسكري بقيادة المشير طنطاوي وسياساته حتى ما كان يظهر منها الانحراف الواضح بالسلطة ، لأن الحسابات كانت مختلفة عن حسابات "التيار الوطني العام" ، ولعب طنطاوي بذكاء كبير على "رغبات" الجماعة المكبوتة ، كانت حسابات لصالح التنظيم والجماعة والحلم الديني ، وتعمقت الهوة والمرارات بين الإسلاميين وبين القوى المدنية ، وانتشر الخوف من تلك الشراكة الغامضة بين الإخوان والمجلس العسكري ، وتفاقمت الأمور مع تولي مرسي رئاسة الجمهورية ، ثم انتهى الأمر إلى ما يشبه ما انتهت إليه تجربتهم مع عبد الناصر .
الخسارة الثالثة والفادحة التي تسبب فيها مشروع الحركات الإسلامية ، كانت خسارة دينية ، لأن المدد الأيديولوجي لتلك الحركات كان يستنزف الرصيد الديني في المجتمع وينفق منه للحشد والتجنيد والتعبئة السياسية ، ومع الصراع السياسي مع القوى والأحزاب الأخرى ، وقعت "الفتنة" الحقيقية ، بأن أصبحت بعض أصول الشريعة محط جدل سياسي واجتماعي ، وأصبح قطاع واسع من الشباب المدني وأحزابه ومراكزه وجمعياته ينظر إلى أحكام شرعية عديدة بوصفها "أيديولوجية" خاصة بالتيارات الإسلامية ، وليست هي دين الإسلام نفسه ، فتحول الإسلام والفكرة الإسلامية تدريجيا من روح المجتمع وثقافة المجتمع التي يتحرك فوقها الجميع ويبجلها الجميع إلى أن تكون مجرد أفكار حزبية يتم التصارع معها كما يتم التصارع مع أصحابها ، وهذا ما أحدث فوضى واسعة ، وتراجعا في حرمة المرجعية الدينية في المجتمع وخاصة في الطبقة المدنية الوسطى ، المعنية أكثر بالتغيير والعمل العام ، وهنا يمكن القول أن الإسلام نفسه ـ شريعة وثقافة وروحا ـ خسر في هذه المعركة وليس فقط الإسلاميين ، وهذا من جناية التصور الخاطئ عند الإسلاميين بشكل أساس .