د.محمد مختار جمعه
تطبيق الشريعة - خصائص الشريعة وسماتها
خلق الله تعالى الإنسان وأوجده لحكمة بالغة تتجلى في وجوب معرفته بخالقه وعبادته كما يرضى، مع ملازمة البناء والتعمير والتنمية في هذا الكون المحيط به والمسخَّر له، فالإنسان لم يترك من غير إرشاد إلهي لمعالم السير في الحياة أو بلا بيان لقواعد انتظام شئونه وعلاقاته المختلفة، قال تعالى: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى)[القيامة: 36] أي : لا يُؤمر ولا يُنْهى.
وتشرح هذه المعاني إجمالًا مهمة وجود الإنسان وماهيتها، وأنها منضبطة وفق قواعد مُحْكمة منزلة من عند الله تعالى تُحرِّضه على فعل الخير وعلى عمارة الأرض على قدر الطاقة البشرية، وتحفظه من نشر الشر وفعل الفساد، لتحْصُل له النجاة في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ. فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزلزلة: 6-8].
وبذلك تتجلى خصائص الشريعة الحقة في كونها ربانية من عند الله تعالى، مما يحفظ عليها مبادئها ومقاصدها وأحكامها من مظاهر النقص والظلم والهوى، حيث ساوت في مخاطبة جميع من انتسبوا إليها بالتكاليف الشرعيَّة بلا تمييز مطلقًا.
ومن سماتها كذلك أن أحكامها بُنِيَت على التيسير الذي هو مبتغى الفطرة، فناسبت بذلك أصول الفطرة الإنسانية ظاهرًا وباطنًا جسدًا وعقلا، وتكيفت مع الأهلية البشرية سواء الطبيعية أو المكتسبة وفق إرادة الله تعالى له من اكتساب الأسباب والوسائل التي هيأها سبحانه له في الحياة، فهي شريعة سمحة سهلة لا مشقة فيها، كما قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)[الروم: 30].
وبما أنها الشريعة الخاتمة فهي باقية خالدة لا يلحقها تغير ولا نسخ، فهي تامة كافية في إرشاد الأمة سواء في جهة المجموع أو في جهة الأفراد في كل شئونها وما تدعو إليه حاجتها، ولعل من أظهر الأدلة على ذلك: ما قرره المؤتمر الدولي المقارن في دورته الأولى سنة (1932م) من اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرًا من مصادر التشريع الدولي العام، وما قرره مؤتمر المحامين الدولي سنة (1948م) من ضرورة الاستفادة من التشريع الإسلامي لما فيه من حيوية ومرونة.
إن هذه خاصية جوهرية مميزة للشريعة الإسلاميَّة، تجعلها صالحة في كل زمان وفي أي مكان، ومواكبة لمستجدات الحياة الإنسانية جملة وتفصيلا، ووافية في كل وقت بما يحتاجه الناس؛ نظرًا لتعدد مصادر استمدادها وثرائها، وما فيها من مرونة أتاحت للمجتهد حرية واسعة لدراسة مسائل عصره وبلده بمعيار الاستنباط والموازنة، ودفع الحرج عن الأمة بالتوسعة عليها في تعدد المذاهب والآراء، وفق ضوابط تعصم مراعاتها من الوقوع في الزيغ والانحراف. كما تمتاز الشريعة الإسلامية بأن انقياد المسلم إليها في حياته وشئونه يحتل أولوية كبيرة في الاعتقاد والإيمان، وفي التطبيق والممارسة أيضًا على حد سواء؛ للامتثال الواجب لأمر الله تعالى وما ينبني عليه من قدسية وهيبة لأحكام الدين، مع ترتب الجزاء على ذلك طاعة أو مخالفة في الدنيا والآخرة، مما يُعَدُّ ضمانة راسخة لخضوع الفرد والمجتمع لأحكام الشريعة ومقاصدها خضوعًا اختياريًّا سرًا وعلانية مع تحقق زجر النفوس وكفها عن الوقوع في المخالفة.
وتؤكد جملة هذه الخصائص انحراف أهل التطرف في الأفكار والممارسات؛ حيث نجد قصورًا كبيرًا في تناولهم لطبيعة الشريعة الإسلاميَّة وكيفية التعامل مع خصائصها نظرية وتطبيقًا، إذ لم يحترموا التنوع والتعددية مع اجترارهم لمسائل القرون الخالية كما هي دون ملاحظة لمناسباتها، وانحصارهم في آراء محددة وفق مرجعية موازية وضيقة، فكان انتشار مناهج الإفراط والتفريط التي ابتليت بها الأمة في هذه الآونة العصيبة، ولا نجاة من ذلك إلا بسفينة النجاة التي تتمثل في منهج الفهم الصحيح والاعتدال الذي يحمل مشاعله الأزهر الشريف، والذي من خلاله يتحقق مراد الله تعالى من خلقه.