الأهرام
عبد الرحمن سعد
مفاتيح "القراءة بقلب"
القراءة هي كل نشاط لُغوي يقوم به المرء بقلبه أو بجوارحه؛ فتشمل القراءة بالقلب، والعين، واللسان، والأذن، واللمس. وتتضمن مجالاتها كل نشاط إنساني من: قراءة القرآن، والصلاة، والحج، والعمرة، وذكر الله صباحا ومساء، وفي اليوم والليلة، وعند النوم، والأذان، وسماع الخطب، وإلقاء المحاضرات، وقراءة الكتب والمقالات، والبحث، والدراسة، والإدارة، والعمل.. إلخ.
هذا ما يوضحه الدكتور خالد بن عبدالكريم اللاحم، أستاذ علوم القرآن بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، في كتابه: "قراءة بقلب.. قلب النجاح في الحياة"، الذي استعرض المقال الماضي مقتطفات منه، ويتناول المقال التالي مفاتح تلك القراءة، للقرآن، ثم للكون، ثم لغيرهما.

إن أوَّل آية أُنْزِلَت من كتاب الله هي: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ"، في سورة "العلق"، وهي أول سورة أُنزلت على قلب النبي، صلى الله عليه وسلم، في العام الثالث عشر قبل الهجرة؛ تدعوه، وكل مسلم، إلى قِراءة باسم ربه، الذي خلق، وعلَّم بالقلم.

من هنا دعا النبي، صلى الله عليه وسلم، ربَّهُ، فقال: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ، ومِنْ دُعَاءٍ لاَ يُسْمَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ، وَمِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَؤُلاَءِ الأَرْبَعِ". (صححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"، و"صحيح الجامع").

وفي رواية للترمذي: "اللهمّ إنِّي أعوذ بك مِن عِلْمٍ لا ينفَع، ومِن قلبٍ لا يَخْشَع، ومِن عَيْنٍ لا تَدْمَع ، ومِن أُذُنٍ لا تَسْمَع".

إنه، إذن، "القلب الذي يَخْشَع"، و"العلم الذي ينفَع". ويعلِّق المؤلف على ذلك بقوله: إن "قوة التركيز، والتحكم بالخواطر وحديث النفس"، من أهم مهارات الحياة، فمَن تدرَّب عليها حتى يتقنها؛ يستفيد منها، ومن كان مهملاً لها، قد ترك العنان لنفسه تفكِّر كيف ومتى شاءت؟، فإنه يكون كالطفل الذي تربَّى على الفوضى، فهو معرَّض للخطر والهلاك في أي وقت، ويصعب قيادته وتوجيهه الوِجهة المطلوبة".

ويضيف: "تذكَّر أن هذه الهواجس التي تملأ قلبك آناء الليل والنهار تدمِّر حياتك، وتقضي على طموحاتك، وتَحُول بينك وبين تحقيق أهدافك، وتؤدي إلى نقصك عن أقرانك في الدِّين والدنيا والآخرة".

تَذكَّرْ (أيضا) - يتابع - أن: "فتح باب القلب لهذه الهواجس هو الذي يحرمك من عمق القراءة، ويؤدي إلى ضياع الوقت في قراءة سطحية وهمية، تظن أنك تقرأ بينما دقائق حياتك النفيسة تذهب في هواجس دون أن تُحس أو تشعر، فيضيع وقتك دون إنجاز أعمالك، وتحقيق طموحاتك".

والأمر هكذا يوضح الدكتور اللاحم أن: "من أهم مقاصد قيادة القلب: تحقيق البصيرة بالوسواس الخناس الذي يُضعِف القلب، ويُحدِث النسيان والسهو عن القراءة، ويقلِّلُ من تأثيرها في القلب، أو يصد عنها بالكلية، فإذا أمكنت قيادة القلب تحققت القراءة، وتحقق كونها بقلب، ولم يتمكن الوسواس الخناس من تعطيله أو إضعافه، فيتحقق بذلك قوة القلب بأنواعها، ومن ثَمَّ تحقيق الأهداف في الحياة".

وتدخل الهواجس، التي هي الوسواس الخناس، إلى القلب من الخارج أو الداخل، فتزاحم ما فيه من ذكر، فإذا كان مخزونه منه ضعيفا يزداد ضعفا، لذلك كان من أهم صفات المؤمنين أنهم "عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ"؛ لأن "اللَّغْوَ" يضعف "القراءة بقلب".

أما هذه الآية وأمثالها في القرآن: "كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا". (الفرقان: 32)؛ فتؤكد أن ثبات القلب وقوة النفس إنما يكونان بقوة ثبات العلم بالله في القلب.

وبالنسبة للمفاتيح التي تجعل القراءة أكثر عمقًا وفقهًا ووعيًا وحفظًا فهي: الإرادة أو الحب، واستحضار الأهداف والمقاصد، والحفظ، والتركيز (المنع)، والربط (المعاني)، وبذل الوقت، والترتيل، والجهر، والتغني، والتَّكْرار.

إن أول مفتاح لقراءة القرآن بقلب هو قوله تعالى، من سورة "المزمل": "فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ".(20)، وكذلك قوله سبحانه: "وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا". (الإسراء: 106)، وهو ما يعني أن حفظ القرآن قد يمتد إلى سنين، بلا استعجال، بل يسير على مُكث، مُنجما، لا جُملة، مع ترتيله، لأنه نزل بالترتيل.

قال تعالى: "وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا".(المزمل: 4). وقال: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (الفرقان: 32).

و"الترتيل" - في اللغة -: التلاوة والقراءة بالتأني والتمهُّل والترسُّل، والنطق بالحروف مفسَّرةً واضحةً، يُؤَدِّيهَا بِتِلاَوَةٍ مُنَغَّمَةٍ، وَبِصَوْتٍ حَسَنٍ، فترتيل القرآن أفضل مراتب التلاوة.

وفسَّر علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، الترتيل، بأنه "تجويد الحروف، ومعرفة الوقوف".

والتلاوة لفظ عام يشمل القراءة والإتباع، ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ". (البقرة:121). بينما "الترتيل" مرتبة من مراتب التلاوة، وهو أفضلها.

وفي تفسيرالطبري وابن كثيرعن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال: "والذي نفسي بيده؛ إن حق تلاوته أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله عز وجل، ولا يحرفه عن مواضعه، ولا يتأول شيئاً منه على غير تأويله".

وبجانب ترتيل آيات القرآن؛ لابد من الربط بينها، لأجل الفهم والتدبر، مع الأناة والانتباه، وهذا يقتضي الاستيقاظ قبل أذان الفجر بوقت كاف، وعدم التأخر كثيرا عن النوم بعد صلاة العشاء، ذلك أن أهم أوقات "قراءة القرآن بقلب" هو جوف الليل، وهو سر من أسرار الحياة.

قال تعالى: "وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا".(الإسراء:79).

وفي أنشطة إيمانية أخرى، بخلاف قراءة القرآن، نستكمل استعراض "مفاتيح القراءة بقلب"، في مقال مقبل.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف