«زحام وأبواق سيارات مزعجة.. واللى يطول له رصيف يبقى نجا».. كلمات نافذة قالها «صلاح جاهين» ضمن رباعياته الشهيرة تكاد تكون الأشد دقة فى وصف الحال التى وصل إليها الإعلام خلال الشهور الأخيرة، فأبواق الإعلام الفضائى، على وجه التحديد، أصبحت مصدراً لإزعاج المشاهد، وليس لتنويره أو منحه معلومة يمكن الاطمئنان إلى دقتها. الإعلام حالياً يضع المتلقى فى حالة شك أكثر مما يضعه فى حالة تنوير، وهو بذلك يعمل عكس الوظيفة المفترضة له. تلك الحال أصبحت سَمت الإعلام الذى يتناول ما يحدث فى بر المحروسة، سواء كان إعلاماً محلياً، أو عالمياً. قيم المهنة تم ركنها على الرف، والنتيجة زهد الجمهور فى الجميع. راجع مَن حولك واسألهم ماذا يشاهدون من البرامج والقنوات الإخبارية. وستحصل على إجابات تؤكد لك أن أقلهم يهتم بذلك، أما أغلبهم فيغرق أمام المسلسلات القديمة أو أفلام إسماعيل ياسين أو نجيب الريحانى، وسيبقى شغفه بمتابعة القنوات «الأبيض وأسود»، وغرامه بمتابعة دراما الألوان، والسر فى ذلك معلوم بالضرورة. الناس أصبحت تبحث عن واحة هدوء تبعدها عن حالة الصخب والزحام وأبواق الإعلام المزعجة.
الحالة التى وصل إليها الإعلام تجد تفسيرها فى تحوُّله إلى ساحة من ساحات «الخصومة السياسية»، فالكثير من البرامج، وكذا القنوات الفضائية الإخبارية، أصبحت بديلاً للأحزاب السياسية، وأمسى مقدمو البرامج زعماء سياسيين وليسوا رجال إعلام. تعلم أن لدينا عشرات الأحزاب الضعيفة لأسباب مختلفة يتعلق بعضها ببنيتها وقدرتها على الحركة، ويتصل بعضها الآخر بسمات الظرف السياسى الذى تعيشه مصر. الأحزاب المصرية بلا دور، ويصفها البعض بأنها معطلة الأدوار، وبغضّ النظر عن الوصف الذى تفضله فى بيان حالة الجمود التى انتابتها، فإن النتيجة التى تترتب على ذلك أن يصبح الإعلام ساحة لممارسة العمل السياسى. وهو أمر يحمل نتائج خطيرة، سواء على مستوى الإعلام أو على مستوى السياسة.
على مستوى الإعلام يؤدى تحوُّل المنبر الإعلامى إلى منبر سياسى إلى نوع من الضمور فى قدرة الوسيلة على القيام بوظائفها الحقيقية فى حياة الجمهور، لتتحول الساحة الإعلامية إلى ما يشبه السيرك. هل تذكر كيف وصف صلاح جاهين «البلياتشو» الذى يعمل فى سيرك؟ إنه يقول: «بلياتشو قال إيه بس آخرة جنونى.. وسبع وقق مساحيق بيلونونى.. والطبل والزمامير وكتر الجعير.. إذا كان جنون زبونى فاق عن جنونى.. عجبى». ذلك هو وضع الإعلام عندما يتحول إلى ساحة من ساحات الخصومة السياسية. أما حال السياسة فحدّث ولا حرج، فالسياسة تمارَس على الأرض وليس داخل استوديوهات الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعى. يستوى فى ذلك السياسة الداعمة للأوضاع القائمة، أو السياسة المعارضة لما هو قائم. الطرفان المتعاكسان فى مصر حالياً يفتقدان القدرة على التأثير فى الناس. السياسة التى تمارَس من خلال الإعلام عاجزة عن حشد الناس، سواء بما يفيد السلطة بأهدافها فى الاستمرار أو التنمية وإقامة المشروعات، أو بما يضرها، ويخلق لدى الناس نوعاً من الغضب منها. عندما يحل الإعلام محل الحزب ويتحول إلى نافذة معبرة عن الصراع السياسى يصبح مجرد «سيرك»، يغيب عنه الإعلام كما تغيب عنه السياسة.