المصريون
جمال سلطان
ماذا يفعل أهل الشر عندما تغيب الشفافية عن الدولة ؟!
تعاقبت علينا أحداث أو كوارث مرفق السكة الحديد خلال السنوات الماضية ، وأصبح هناك سيناريو كابوسي كل عدة أسابيع أو أشهر عن حادث مروع يذهب ضحيته عدد من المواطنين قتلى أو مصابين بعاهات ما بقيت لهم أنفاس على الأرض ، وهناك محاولات دؤوبة هذه الأيام لتطبيع التعايش مع هذه الكوارث ، مرة بالحديث الإيماني المتبتل عن القضاء والقدر ، وأن هذه حكمة الله وإرادته ، وهي حكمة لم نتذكرها إلا مع النظام الحالي ونسيناها عندما كنا ننتقد بحرقة شديدة النظام السابق في نفس الملف ، ومرة بأنها تحدث في كل مكان في العالم ، وهو كلام صحيح لكنه مبتسر ومزور ، لأنها تحدث كحالات عارضة واستثنائية ونادرة في بعض الدول ، وعلى بعد سنوات ، بينما هنا أصبحت كأنها برنامج كل عدة أسابيع أو أشهر ، بين حادث صغير أو كبير وأغلبها نتيجة اهتراء البنية الأساسية للمرفق ، ثم أخيرا حدثنا الرئيس عبد الفتاح السيسي عن أن المرفق "خربان" بالمعنى الدارج ، وأنه يحتاج إلى مائتين وخمسين مليار جنيه من أجل إصلاحه وتطويره ، وأن هذه المبالغ غير متوافرة لدى الدولة ، وهو ما يفهم منه أن على المصريين أن يتعايشوا مع الكارثة حتى يأتي الفرج من عند الله .
لم يكن هذا الحديث هو مبعث الإحباط الوحيد في تلك المسألة ، وإنما أيضا غياب الشفافية عن الموضوع برمته ، وعن تصريحات المسئولين ، كبارا وصغارا ، فلا أحد يعرف على وجه التحديد ما هو حجم مشكلات السكة الحديد ، ولا ما هي الميزانية المطلوبة ـ علميا ـ لإصلاحها وتطويرها ، بل إننا نملك الآن حوالي خمسة تصريحات صحفية للرئيس ووزير النقل المسئول عن الملف ، خلال العام الأخير وحده ، وكل تصريح منهم يحمل رقما مختلفا تماما عن التصريح الذي سبقه ، ففي تاريخ 5 فبراير 2018 قال وزير النقل أن إصلاح مرفق السكة الحديد يحتاج إلى 17 مليار جنيه مصري ، وهو من الصعب توفيره ، وفي تاريخ 14 مايو 2017 كان نفس الوزير قد قال أن إصلاح مرفق السكة الحديد يحتاج إلى 45 مليار جنيه لإصلاحه ، وفي تاريخ 28 فبراير 2018 قال نفس الوزير أن إصلاح مرفق السكة الحديد يحتاج إلى 200 مليار جنيه ، وفي تاريخ 1 مارس 2018 قال الرئيس السيسي أن إصلاح السكة الحديد يحتاج إلى 250 مليار جنيه ، وهذه تصريحات موثقة بالصوت والصورة والنص المنشور ، ويمكن لأي قارئ الحصول عليها في دقيقة واحدة بالبحث في أي محرك بحث على شبكة الانترنت ، وهذه الأرقام المتناقضة والمتعارضة والمختلفة ، ما بين 17 مليار إلى 250 مليار ، كلها صدرت عن كبار المسئولين في الدولة ، عن الرئيس والوزير ، خلال أقل من عام واحد فقط ، وعلينا أن نصدق أو نختار أو "نخمن" ، أي تلك الأرقام هو الصحيح وأيهم هو المضروب ، وما هي التكلفة الحقيقية لإصلاح السكة الحديد ، وبالتالي علينا أن نتخيل و"نخمن" حجم المشكلة وكيف يمكن حلها ووقف قتل وهلاك المزيد من المواطنين .
الخبير الهندسي المعروف الدكتور ممدوح حمزة ، علق على تصريحات السيسي وقال أنه مستعد أن ينجز عملية إصلاح وتطوير مرفق السكة الحديد بنصف الرقم الذي قاله الرئيس ، أي أننا أمام مبلغ خامس وهو 125 مليار جنيه تقريبا ، وقال حمزة أنه مستعد أن ينجز هذا العمل متطوعا ، بدون أي مقابل لمكتبه الهندسي ، ولا أعتقد أن لدينا أي دراسة أنجزتها بيوت خبرة عالمية لهذه العملية الضرورية والحيوية المطلوبة ، وهذا ما يسبب هذا التعارض الغريب بين الأرقام المطروحة من المسئولين ، وهذا أحد الأسباب الجوهرية لصعوبة حل المشكلة ، لأن الحل يتحتم أن يقوم على تصور علمي دقيق من قبل خبراء ، وهو أمر غير متوفر ، لذلك عادي أن تسمع الوزير قبل شهر واحد فقط يقول أنها تتكلف 17 مليار وتسمعه اليوم يقول أنها تتكلف 200 مليار .
لدينا في مصر تحديات كبيرة ، هذا صحيح ، لكنها ليست عصية على الحل ، وقد كان أمام دول أخرى تحديات أعمق وأكبر ، ولكنهم نجحوا في تفكيكها وحلها ، كما حدث في الصين التي يعيش فيها قرابة مليار وربع المليار إنسان ، وفي الهند التي يعيش فيها قرابة المليار إنسان ، ولكن تلك الحلول أتت عبر العلم والبحث العلمي والجدية في التخطيط والعمل ، وهي الأمور التي لا تتوفر لدينا مع الأسف في مصر ، فما زلنا نمارس الإدارة بالفهلوة والاستعراض الإعلامي ، وضرب الأرقام الجزافية ، مطمئنين أن أحدا لن يراجعها أو يحاسبنا عليها .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف