د. حسام عقل
طوابير المعرض .. بارقة أمل !
أزعم أن هنالك ( مخدرا ً خطيرا ً ) ، نستمر في تعاطيه على المستوى الجماعي ، و يتمثل في ما يمكن أسميه سياسة تملق ( الفرد المصري ) على طول الخط ، و التمجد بمآثره و منجزاته و ماضيه ، بصورة توشك أن تمنحه عصمة الأنبياء و كيل المديح بلا توقف لصفاته و خصائصه الإيجابية فقط ، دون التطرق لعيوب جذرية في شخصيته _ بتأثير الموروث الحضاري و التاريخي _ قادت ، في بعض الأحيان ، إلى كوارث محققة ، بترسيخ الاستبداد السياسي البشع غير المسبوق و غياب أبسط الحقوق الاقتصادية ، بل غياب " خطاب العدالة الاجتماعية " بالكامل و توريط البسطاء بصورة مكشوفة ، في صراع رهيب مذل مع ( لقمة الخبز ) جرت العادة بأن نضع له لافتة ديكورية محببة ملطفة ، أعني عبارة : " شعب صبور " و كأن الصبر _ في المفهوم الذي جرى تسويقه _ قبول بالدنية و انقياد للإفقار و التجويع العمدي و القهر السياسي الممنهج !
كسر الراحل الرائد د / " جمال حمدان " _ المثقف الحقيقي فيما أرى بعيدا ً عن أقزام المشهد الثقافي و ببغاواته الضحلة ! _ هذا التوجه المسرف في كيل المديح ، حين واجه المصريين بعيوبهم الخطيرة في مقدمة الجزء الأول من مجلده القيم : " شخصية مصر " ، حيث انتقد _ بنقمة و غضب _ ما لابس الشخصية المصرية ، عبر عقود و قرون تاريخية ممتدة ، من استكانة غير طبيعية لظلم غير طبيعي _ بدوره _ وصل إلى حدود تبرير السحل بالدافع الوطني ، و تسويغ القتل العلني ( دون قانون أحيانا ً ) بالإخلاص القومي و العروبي ، و إفقار الشعب و هضم حقوقه الاقتصادية بكاملها بذريعة ( حماية الدولة ) دون أن يفهمنا أحد أو يجيبنا : هل يمكن ( حماية الدولة ) دون ( حماية أناسها ) ؟! و هل هنالك أي معنى ل " دولة قائمة " في الجوهر على أشلاء أناسها ، و كأن فكرة الدولة كيان متعال ٍ عن الشعب ذاته أو لا صلة له بهذه الملايين المتوجعة ، قهرا ً أو فقرا ً ! و هو ما دفع " جمال حمدان إلى الصراخ في مقدمة موسوعته حين قال : " .. نحن معجبون بأنفسنا أكثر مما ينبغي .." ( شخصية مصر ج 1 / ص26 ) ، ثم عاود التأكيد بأن طريقة المصريين في التعامل مع حكامهم _ بطريقة العصمة و التقديس و تبرير القهر _ قد سمحت للحكام منذ العصر الفرعوني حتى العصر الحديث ، بفضاء واسع من الانتفاخ و التمدد ، ضغط على رئة الناس بما يتجاوز الحدود الطبيعية ، و سمح بأن يطلق المؤرخون على مصر ، منذ أقدم العصور : " أرض الطغيان " land of tyranny ( شخصية مصر / ج 1 / ص 34 ) و بسبب من هذه المصارحة ( الجارحة من وجهة نظر البعض ! ) عاش " جمال حمدان " معزولا ً ، و مات في شقته وحيدا ً بما يشبه الكمد ، و نجح أقزام الحركة الثقافية في تكوين حسابات مليونية في المصارف ، بسياسة الأمساك بالصاجات و حرق البخور !
أعترف بعيوب الشعب المصري الجذرية ، التي سمحت للاستبداد السياسي و القهر الطبقي ، بهذا التمدد السرطاني العجيب ، و لست من أنصار ( الطرمخة ) على هذه العيوب النافذة في العظام ، و أنما أنحاز دوما ً لسياسة المكاشفة الكاملة وصولا ً للتقويم المفترض و تصحيح المسار ، لكن هذا الاعتراف ( المؤلم ! ) لا يحول بيني و بين تسليط الأضواء على بعض الإيجابيات المتنامية ( في الشخصية المصرية ) ، التي لم تنجح موجات المسخ و القهر و الإفقار المنظم في محوها ، أو تبديدها أو إهالة التراب عليها ، و أبرز هذه الإيجابيات الإقبال الضخم على سوق الكتاب في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الأحدث ، رغم ضعف القدرة الشرائية و الانهيار الاقتصادي الواضح _ بمؤشراته و معالمه _ و الارتفاع غير المسبوق في سقوف الإحباط العام و نسبه بتأثير الانهيار الاقتصادي و انسداد الأفق السياسي !
كنت ، في بعض الأيام أقف ما يقرب من ثلث الساعة أو نصفها في طابور ممتد أمام أبواب المعرض لأتمكن من الدخول ، و في الداخل رأيت أناسا ً من كل الأعمار يحملون كتبا ً مكدسة في السياسة و الفن و الاقتصاد و الأديان و التكنولوجيا و العلوم ، و هو مشهد واع ٍ رفيع شديد الرقي ، لا يصله أي رابط أو صلة ب ( العك السياسي و الاقتصادي ) في الخارج ( أي ما يدور خارج أسوار المعرض ) ، و معنى أن يعاود المصريون قراءة " تحول السلطة " ل " ألفين توفلر " ، أو " خريف البطريك " ل " جارثيا ماركيز " أو " أعراس " " محمود درويش بوطنياتها اللاهبة و غنائياتها الساخنة ، فضلا ً عن مؤلفات " المراغي " و " محمد أبو زهرة " و " محمود شلتوت " ، أن الشعب المصري ، بسبيله لاتخاذ قرارات جذرية تتعلق ب " نخبته الثقافية " الخائنة ، و تتعلق بقرار جماعي صامت / مستقل فيما يبدو ، بعيدا ً عن أجهزة السلطة و إعلامها المتهوس ( التعبوي ) ، و نخبتها العجوز التي تحتسي الشاي بتبلد في أروقة ( المجلس الأعلى للثقافة ) ( بقاعاته الخاوية أو الفاشلة بوضوح ! ) ، و مضمون هذا القرار يتمثل في طرد ( النخبة الثقافية ) التقليدية ، بدورها الكارثي في تلبيس الوطن المصري في الحائط ، من المشهد العام ، و يبقى الضلع الثاني من القرار هو الأهم ، أعني أن يصنع الشعب ثقافته و يشكلها بنفسه بعيدا ً عن الوصاية ، و سيقوده هذا الطريق حتما ً إلى مسارين لا ثالث لهما : ( الحريات ) و ( العدالة الاجتماعية ) دون خديعة من سلطات أو جماعات او قوى حتى و إن تم ذلك بشكل تدريجي متراكم ، و يرتبط بذلك بالتأكيد صناعة " نخبة جديدة " مسئولة تستجيب لتطلعات الحرية و لقمة الخبز ، كما تؤكد ذلك ، بغير لبس أو ارتباك في الفهم ، طوابير المعرض !
بوضوح لم تعد تجدي مع الشعب المصري أقراص الترامادول التي يصبها " إعلاميون " في مسارات الوعي كل يوم بهدف تخريبه ، و لم تعد تجدي أكروبات " عمرو أديب " في الأستوديو و هو يخلط الرؤى و الألوان و المواقف و السياسات بتدليس مكشوف ، في مسخ معلن و مستتر للوعي الحقيقي بالأزمة ، و لم تعد صرخات ( حارقي البخور ) في برامج التوك شو ، مجدية في تضليل المسارات و إثارة الضباب على المشاهد ، لأن الكتاب الذي يقرؤه المصريون _ دون وصاية _ كفيل بتحريك الوجهة باتجاه الفهم الحقيقي الجاد ، الذي لا ينقاد للزامرين و المطبلين ، الذين انتسبوا زورا ً لرسالة الإعلام ، و اندسوا بتطفل _ دون استئذان _ في قافلة المهنة !
ضحك المصريون ، حتى استلقوا على ظهورهم من الضحك من مقالة " يوسف القعيد " الأحدث التي حاول من خلالها أن يتملق ، بصورة مفضوحة خطابات الرئاسة ، و يتغزل بشكل غير مسبوق ، كل ما يصدر عن الحاكم ، معتبرا ً كل عبارة تصدر ، من شأنها أن تؤسس ل " بلاغة من نوع جديد " ، بتعبيره ، و هي وجهة في النفاق ( موروثة من فضاء الستينيات ! ) لا أظنها سترضي الرئاسة ذاتها أو تخدم سياساتها أو تصلح لإعادة التدوير للمصريين ، لكن هذا المسلك _ من قبل النخبة الثقافية التقليدية _ يبرر للشعب المصري ما رأيته في فعالية المعرض الأحدث ، من قرار مختمر حاسم بطرد هذه النخبة إلى غير رجعة ، بعد أن منحها الشعب عشرات الفرص لتصحيح الوجهة و المسار ! المشهد الحضاري الذي رأيته في معرض الكتاب ، كان _ فيما أرى _ البشير الصحيح بإنهاء ما أسماه " جرامشي " : " المثقف / موظف الدولة التكنوقراطي " الذي لا هم له إلا تسويق وجهة نظر السلطة ، و من ثم إنهاء ما عرف باسم " الهيمنة أو تدجين المثقف و ترويضه " hegemonio ، على أصحاب المعاشات داخل مدينة الإنتاج الإعلامي و نادي القصة و الأتيليه و المجلس الأعلى للثقافة ، أن يتهيأوا لعزلة طويلة / سرمدية ، بعد أن اختار الشعب المصري _ في حدود ما رأيت في لوحة معرض الكتاب المعبرة _ قراره بصناعة : " نخبة جديدة " تلائم حريته و تطلعاته الحضارية و بحثه عن العدالة الاجتماعية ، و لاعزاء لنخبة ( الدبكة ) و حارقي البخور !