الأهرام
سناء البيسى
د. سهير القلماوى.. سيدة الكِتاب
عندما أُعلن أن رقم رواد معرض الكتاب هذا العام 2018 قد بلغ الستة ملايين شكرت فضلها وحمدت جهدها ورددت اسمها وترحمت على زينة نساء مصر ودرّة فكرها وقبس تنويرها.. الدكتورة سهير القلماوى أول من أنشأ المعرض الدولى للكتاب فى القاهرة عام 1969 ليجتمع فيه كبار المثقفين والكُتّاب والأدباء المصريين والعرب على مدى نصف قرن. وحدث أنه فى ختام المعرض أعلن الدكتور هيثم الحاج على رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب أن اليوبيل الذهبى لمعرض القاهرة الدولى للكتاب القادم (2019) قد تم اختيار شخصيته الرئيسية وخلاص، والتى تتمثل فى الدكتورة سهير القلماوى والدكتور ثروت عكاشة معًا وخلاص.. اختيار القلماوى نِعم الاختيار وحُسن التتويج لسيدة الثقافة على أرض مصر والعالم العربى، لكن أن يتم الاختيار بقرار ذكورى مجحف بمشاركة الدكتور ثروت عكاشة مناصفة فى التكريم فهذا ظلم بيّن لصاحبة النافذة الفكرية المصرية الدولية فى الاستقلال وحدها باليوبيل التذكارى، وليس فى ذلك نكران لدور أعظم وزير ثقافة مرّ فى تاريخ مصر ــ ومن بعده المبدع الفنان فاروق حسنى ــ قام بإنقاذ آثار النوبة، وأنشأ أكاديمية الفنون وغيرها من الإنجازات الثقافية الجليلة تستحق تكريمًا خاصًا لصاحبها العظيم ـ الذى مرت ذكراه العطرة السادسة فى فبراير الماضى ــ فى مجالات ذهبية أخري، فنحن هنا نكرّم معرض القلماوى للكتاب بالذات الذى لا مجال فيه لـ(هو) مع (هى) ليزاحمها فى الصورة، وكـلاهما نجم، وكـلاهما علم، وكـلاهما قيمة وقامة، وكـلاهما عالـمًا وعَالَـما اللـهم إلا إذا ما كانت الأفكار غير النيرة قد راودت اجتماعات الاختيار وعلى رأسها «شيلة واحدة ونخلص» و«علشان الكل ييجى مبسوط» و«مادام ثقافة يبقى فيها ثروت» و«الاثنين تعيش إنت» و«المعترض يتقدم للتشريح والتجاهل»، ثم إن سيادة وزير الثقافة وقتها هو الذى وقع بالموافقة على مشروع المعرض الذى قدمته الدكتورة ولولا التوقيع لما تم الإنجاز يا سيد فى بلد البنود واللوائح والتوابع والملاحق والتمغة والأختام، والغريب وليس الطريف أن الدكتورة سهير القلماوى قد شاركها مناصفة أيضًا فى جائزة الدولة فى الآداب عام 63 الدكتور شوقى ضيف وكـلاهما أيضًا دولة ثقافية مستقلة!!

الدكتورة سهير محمد القلماوى منارة الاستنارة والاتجاه العقلانى فى الفكر والحياة التى استطاعت الجمع بين طموحات الرجل وأحلام المرأة لتسير بجرأة تحسد عليها عن طريق أستاذها وأبيها الروحى الدكتور طه حسين لتغدو صاحبة مدرسة علمية تخرج فيها أكثر من مائة باحث وباحثة حصلوا على درجتى الماجستير والدكتوراه على يديها، وأول من درّس اتجاهات النقد الأدبى الحديث فى الجامعة المصرية، وكانت أول باحثة عربية تثبت لمفكرى الغرب ومبدعيه أن فن القصة والرواية لم يكن اختراعًا غربيًا بعدما حصلت على درجة الدكتوراه فى الآداب من جامعة السوربون عام 1941 عن بحثها الرائد فى المؤلف الروائى الضخم «ألف ليلة وليلة» لتصبح رسالتها العلمية تلك حُجة على المستشرقين وغيرهم بعد أن ألقت الضوء على مؤلف عربى متفرد بمئات القصص التى تجمع بين الحقيقة والخيال والأسطورة والتاريخ إلى جانب ذلك الخلط العبقرى بين التراث الشعبى والواقع الأدبى، وكانت أول من حصل على الدكتوراه فى الآداب من السيدات، وأول مصرية تحصل على كرسى الأستاذية فى الجامعة المصرية عام 1956، وأول سيدة تولت رئاسة قسم اللغة العربية بكلية الآداب عام 1958، وأول سيدة تتولى رئاسة المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر والترجمة التى عرفت فيما بعد باسم «هيئة الكِتاب» وكانت أول سيدة تحصل على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 1977، وعلى صعيد العمل السياسى عضو بمجلس الأمة عام 1959 وفى مجلس الشعب عام 1979.

ولما كان من حُسن طالعى مجاورة الدكتورة سهير السكن فى شارع السرجانى بالعباسية الشرقية فبيتها رقم 5 وبيتنا 7 ويفصل بيننا مبنى مدرسة سانت جوزيف، فقد كان مشوارى اليومى كطالبة فى جامعة القاهرة قسم الصحافة يمر بعربة الدكتور يحيى الخشاب وزوجته الدكتورة سهير القلماوى ساعة تسخين الموتور للانطلاق صباحًا، وكثيرًا ما اصطحبانى معهما للجامعة لأجلس وقتًا مشهودًا بين قمتى التواضع والألفة والأستاذية لأهبط من عربتهما أمام زملائى فى قمة الخيلاء وعلى رأسى ريشة، وإن كنت سرعان ما أهبط لأرض الواقع لأنقل ما سمعته من الدكتورة للزملاء من أنها كانت أول طالبة مصرية تحمل كارنيه الصحافة لتكتب مقالاتها فى مجلتى «اللطائف المصورة» و«العروسة»، وأثناء دراستها الجامعية اختارها طه حسين عام 1932 سكرتيرة تحرير مجلة الجامعة المصرية، وكان هو رئيس تحريرها، وبعد تخرجها كانت تكتب فى مجلتى «الهلال» و«الرسالة» وتنشر قصائدها فى مجلة «أبولو»، وكان لها حديث أسبوعى فى الإذاعة، وعندما سألتها عن الدراسة وقت التحاقها بالجامعة قالت لى إن عدد الطلبة لم يكن يتجاوز 500 طالب فى جميع الأقسام السبعة أو الثمانية، وأن الكلية كانت متسعة واهتمام الأساتذة كبير، وأنها كانت ترتدى الفستان بالكم الطويل تحت الركبة مع البرنيطة، وأن منصور فهمى باشا عميد كلية الآداب وقتها أصر على ارتدائها زى المدارس الثانوية فقامت بينهما مشادة فى إطار اضطهاده لكل من يضعهم فى جبهة طه حسين الواقع معه فى خلافات فكرية عديدة، وتطور النقاش إلى الحد الذى قالت له فيه إذا كان هناك قانون فى الجامعة ينص على ارتداء زى معين فافصلنى.. ولكن لم يحدث.. ولأن الجامعة المصرية أو جامعة فؤاد الأول كانت الجامعة الوحيدة ويأتى إليها الطلبة من الصعيد فى أقصى الجنوب، فالكثير من الطلبة الذين كان الواحد منهم من الصعب عليه أن يرى أمه وأباه يجلسان معًا على مائدة واحدة للطعام فكيف يجد فى نفس الفصل وعلى تختة واحدة زميلة تحدثه وتسابقه، وكثيرًا ما كان الطلبة يتظاهرون ضد البنات، وأيضًا كثيرًا ما كانت الطالبات يتلقين الخطابات الغرامية ولكن الطالبات الخمس فاطمة سالم سيف، وفاطمة فهمى خليل، وزهيرة عبدالعزيز وسهير محمد القلماوى طالبات الآداب، ونعيمة الأيوبى طالبة الحقوق اتفقن على تمزيق هذه الرسائل بهدوء حتى لا يثرن أى ضجة، وحتى لا يُقال إنهن يفسدن الأخلاق فى الجامعة، ولولا الدكتور طه حسين الذى عيَّنَ لسهير حارسًا يرعاها فى القدوم والذهاب وإعلان لطفى السيد بأن أى شكوى ضد طالب يتضايق الفتيات سيفصل من الجامعة واكتملت التجربة بنجاح، وتتذكر الدكتورة سهير أنها عندما عينت معيدة وجاءت لتلقى محاضرتها بعد الظهر، فإذا بالمدرج يمتلئ عن آخره، جاءوا من كل كليات الجامعة الزراعة والتجارة والحقوق ليتفرجوا عليها، وبالطبع كان من الصعب السيطرة على المحاضرة لتخرج الأستاذة دون أن تلقى شيئا، وبعدها سافرت فرنسا للحصول على الدكتوراه..

ويقع فى يدى ذلك الخطاب الذى قام الدكتور العميد طه حسين بإرساله لتلميذته سهير القلماوى وهى فى بعثتها بباريس الذى يُبين إلى حد كبير حرص الأستاذ على تفوق تلميذته:

صديقتى سهير..

هذا كتاب قصير أختلس الساعة لأكتب إليك فيها اختلاسًا ولا أريد أن أحمل إليك إلا ثلاثة أشياء، الأول اعتذار صادق عن التقصير فى ذاتك والإبطاء فى الكتابة إليك واللـه يشهد ما كان هذا من إهمال أو نسيان وأعوذ باللـه أن أهملك أو أنساك.. واللـه يشهد أنى لأذكرك فى كل يوم غير مرة وما أظن أنك تذكرينى كما أذكرك. وهذا طبيعى فإن لك من حياتك الجادة الخصبة فى باريس ما يشغلك حتى عنى.. والشيء الثانى عتاب صادق أيضًا فقد كان الاتفاق بيننا أن تكثر كتبك إلىّ وإن قلّت كتبى إليك وكنت قد قبلتِ ذلك ووعدت به ولكنك لم تف وعذرك واضح أيضًا فإن فى حياتك بباريس ما يشغلك عن الوفاء بالوعود للأصدقاء فضلا عن الأساتذة إن عذرك أصبح من عذرى. فليست الأعمال وحدها هى التى قصرّت عن الكتابة إليك وإنما هو السأم وضيق النفس والضجر بالحياة هنا والحرص على ألاّ أكتب إليك فتجدى فيما تقرأين لونًا قاتمًا ونغمة حزينة ولولا ذلك لكتبت إليك كثيرًا على أنى نظرت فإذا غمرات عصر لا تنجلى وإذا انقباض لهذه الغمرات لا يخف. وإذا أنا مضطر إلى أن أذكرك بأنى لا أزال موجودًا.

أرجو ألا تجدى فى هذه اللـهجة قسوة أو شدة فاللـه يشهد مرة أخرى على ما أريد ولا أطيق أن أقسو عليك وإنما هى اللـهجة التى تستطيع أن تصدر عن نفسى فى هذه الأيام والتى أتحدث بها إلى أقرب الناس إلىّ وآثرهم عندى والذين لا أتكلف معهم ولا أتصنع.. والشىء الثالث أنى مشوق إلى أخبارك فضلا عن لقائك وأنا اسأل عنك من يتلقون حبك وأعرف من أخبارك ما يريح ويرضى فليمتعك اللـه بما تريدين وما تستأهلين من صحة الجسم ونعمة البال وخصب الجهد والفوز آخر الأمر بكل ما نحب لك. وما أكثر ما نحب لك. ولتقبلى تحية يملؤها الود الصادق والوفاء المقيم»..

ولأن فلسفة الأستاذ الدكتور طه حسين فى الحياة قوله: «أنا لا أحب الطرق القصار ولا الأبواب الواسعة، بل أحب الطرق الطويلة والأبواب الضيقة» فقد أطاعته التلميذة فى اختيار موضوع رسالتها فى الماجستير عام 1937 حول «أدب الخوارج فى العصر الأموى» وكانت البلاد وقتها تموج بالمظاهرات السياسية، والطلبة يخرجون فى تظاهرات بين وقت وآخر، ويعلن موعد الامتحان يوم الخميس فرئيس اللجنة الأستاذ «ليتمان» مسافر إلى باريس فى نفس اليوم بطائرة بعد الظهر، إذن لابد من امتحانها فى ذلك اليوم، وكانت قاعة الجامعة لم تُعد بعد، فعقد الامتحان فى مدرج 78 من كلية الآداب، حيث فوجئت القلماوى بالطلبة يخرجون من مدرجاتهم ويتجمعون فى مدرج الامتحان وينضم إليهم طلبة الأزهر، وأخذوا يهتفون، وازدادت ثورتهم عندما عرفوا بموضوع الرسالة (أدب الخوارج) واضطر الأساتذة لتهريب الطالبة سهير إلى حجرة صغيرة لم تضم أكثر من 60 شخصًا لاستيفاء شرط العلانية، وامتحنت سهير محمد القلماوى فى ذلك اليوم ونالت درجة الماجستير رغم الضجيج خارج جدران الكلية.. وفى بحثى عبثًا عن أصل الرسالة التى تناولت موضوعها الدقيق أول مصرية تحصل على الدرجة العلمية، لكننى وجدت إشارات عن شرحها لأعمال شعراء الخوارج أمثال عمران بن حطان، وقطرى بن الفجاءة، والطرماح بن الحكيم فذهبت بدورى أبحث عنهم فى ذلك الزمان البعيد فوجدتهم فى كتب التراث لم يختلفوا فى الكثير عن خوارج ودواعش وإخوان يومنا هذا بفرقهم المختلفة، وكانت أسماؤهم وقتها الأزارقة والصفرية والنجدات والإباضية الذين يحاربون الجيوش الأموية، وكلما قضى على جماعة إرهابية منهم هبت جماعة أخرى تطلب الاستشهاد فى سبيل عقيدتها فى ولاية الأمة (الخلافة) ومن ألا تكون الولاية قاصرة على قريش بل يتولاها أحد منهم ولو كان عبدًا حبشيًا، وقد أخذوا يصوّرون جموع المسلمين بأنهم ضالون عن الطريق الدينى الصحيح، وأن جهادهم فريضة دينية وهى العقيدة المشوهة التى طبعت على أشعارهم كمسلحين ترافقهم السيوف فى غدوهم ورواحهم، وفى استقرارهم وترحالهم، وأن الإسلام لا يحيا إلا فى معسكراتهم، ومن هنا استحلوا الدماء ووهبوا أنفسهم للموت كأمنية لكل خارجى يتعجلونه كالعطشى، ومن أقوالهم ما قالته أم حكيم من الخوارج:

أحمله رأسًا قد سئمت من حمله

وقـــد مــللت دهــنه وغســله

ألا مــتى يُحـمــل عــنى ثـقـله

ومن شعراء الخوارج فى العصر الأموى عمران بن حطان وكان قبل دخوله سلك الخوارج قد أدرك بعضًا من الصحابة وروى عنهم، لكن قلبه سرعان ما تعلق بابنة عمه الحسناء «جمرة» وكانت خارجية فتزوجها وأراد أن يردها عن مذهبها فأغوته وأدخلته فيه، وكان قبيحًا دميمًا، ويروى أنها قالت له يومًا أنا وأنت فى الجنة، فسألها ومن أين علمت ذلك؟ قالت: لأنك أعطيت مثلى فشكرت وأعطيت بمثلك فصبرت، والشاكر والصابر فى الجنة، وقد تغلغل فكر الخوارج بعمران حتى أصبح جزءا من نفسه يعيش فيه ويعيش به ويشيد بأصحابه حتى بأشقاهم وهو «عبدالرحمن بن ملحم» قاتل علىّ بن أبى طالب، وفى طعنته الغادرة له أنشد عمران الداعشى القديم قوله:

يا ضربة من تقىّ ما أراد بها..

إلا ليبلُغ من ذى العرش رضوانا

وحاول الأستاذ للمرة الثانية أن يُثنى تلميذته عن موضوع رسالتها «ألف ليلة وليلة» التى يشرف عليها لنيل الدكتوراه لأنها تحتاج إلى جهد كبير فى أدوات البحث، والصبر والجلد إلا أنها أصرت وسافرت إلى فرنسا وانجلترا والتقت بالمستشرقين وزارت المكتبات وجمعت لنفسها من هذا كله قدرًا صالحًا وأتمت كتابها وقدمته إلى كلية الاداب، ودافعت أمام لجنة الامتحان عن رأيها وأسلوب البحث والمنهج الذى اتخذته حتى ميزت رسالتها تمييزًا.. وفى هذا جاء ردها على السؤال لماذا ألف ليلة وليلة؟!

- اخترت ألف ليلة وليلة لأننى وجدت أن كل ما كتب عنها من أبحاث ودراسات بعد ترجمتها إلى معظم اللغات الأجنبية بعيدًا كل البُعد عن الأصل العربى للقصة، ومن هنا أردت دراستها من وجهة النظر العربية، وكانت قد أثارت بعد نقلها شغفًا فى نفوس الغربيين لمعرفة الشعوب التى أنتجت هذا الأثر الذى دارت حوله الأحداث، ولكن دراستهم وأبحاثهم أتت من الخارج إلى الداخل، أما دراستى فكانت من الداخل للخارج.. أما عن الأدب المكشوف الذى شَاب حوادث الليالى فهو مدسوس عليها، وهذا ما توصلت إليه فى البحث، أو هو موضوع للترغيب لجذب جمهور أكبر من القراء، فهى لا تتمشى مع سياق القصة، ويمكن الاستغناء عنها، أو هى ليست من «ميه» القصة ولونها وتدل على حرمان الكاتب الذى أضافها، فتصوير اللقاء بين المحبين أدب جميل، ولكنه فجأة يتحول إلى أدب مكشوف لغير ما سبب.. وهذا الكاتب أو القصاص الشعبى كان يشكو الجوع ولكنه لا يستطيع التعبير عنه فى الحياة فيزرعه فى القصة لأنه مستساغ فنيًا، وهذه المناظر التى أشبه بالكليشيهات داخل الأحداث هى.. هى بألفاظها منقولة ما بين قصة وأخرى والمقصود بها تملق الغرائز، وهذا القصاص كان يعبّر عن الحرمان خاصة فى تصويره للولائم كمثال فى قوله: كانت الصينية الكبيرة عليها جمل محمر وداخل الجمل خروف مشوى وداخل الخروف فراخ محمرة وداخل الفراخ حمام، ومن هنا فالركاكة فى بعض القصص ليست من صنع الفنان الحقيقى الذى كتبها مما يؤكد أنها مدسوسة عليها.. وإذا ما كانت الليالى قد طبعت أكثر من ثلاثين مرة فى انجلترا وفرنسا فى القرن الثامن عشر وحده، ونشرت نحو ثلاثمائة مرة بلغات العالم إلا أن الدراسة المبكرة والمتميزة كانت من نصيب الدكتورة سهير القلماوى التى أكدت بالبراهين أن الليالى اكتملت فى مصر بعدما تشبعت بالحياة المصرية والشخصية المصرية ولغة الحياة الشعبية فيها، وتلك الأصول المصرية واضحة فى بعض القصص مثل قصة «على الزيبق»، كذلك تكتشف القلماوى من خلال دراستها المقارنة بين الأدب المصرى القديم وقصص الليالى التى إذا ما كانت قد تناولت دور الحيوانات فإن الأدب الفرعونى قد سبقها بآلاف السنين، وتوجد بردية فى المتحف البريطانى يرجع تاريخها إلى عام 1200 ق.م عن قصة الأسد والفأر، والتى تهدف إلى أن كل كائن حى له مزاياه وقوته..

سيدة الفكر والأدب والعطاء ألهث وراء جبال كنوزها فى كل مجال فتحاورنى كلمات وتضيء عبارات وتشمخ وقفات وتتصدر محطات وتلاحقنى مؤلفات وأحاديث جدتى وأدب الخوارج وألف ليلة والشياطين تلهو وغربت الشمس والعالم بين دفتى كتاب وذكرى طه حسين الخ.. وتأتينى أمومتها هادرة وطفولتها عابرة وزوجيتها ماهرة وثقافتها حافلة ونصائحها سادرة وذكرياتها تاريخ أمة وجهدها بناء وطن وحياتها جد وجديد وتجديد و..أصالة ومعاصرة:

«هناك أدباء يصفون أنفسهم بأنهم أبناء القرية ولكنى أرى فى كتاباتهم عن القرية أشبه ما يكون بالذكريات. ذكريات طفولتهم فى القرية، والبعض الذين يهجرون المدينة ويذهبون إلى القرية لاستلهام الوحى فهو اتجاه خاطئ فأسوأ كتابات هيمنجواى هى التى ذهب فيها إلى افريقيا متعمدًا أن يكتب عنها، والفنان الحقيقى لا يسعى وراء الإلهام وإلا سقط فى هوة الافتعال والصنعة، إن الإلهام هو الذى يسعى إليه».. «أمقت الكذب والكذابين وأبتعد عن أصحابه فورًا ولو كانوا من أعز الأصدقاء، فالكذب شىء لا غفران له عندى».. «لا أغضب بسهولة ولكننى عندما أغضب لا أصفح».. «عاطفية لأبعد الحدود مع من تربطنى بهم الأواصر كأبنائى وزوجى ولكن ليس إلى درجة الضعف».. «إذا مرض أحد الأبناء فهذا كفيل بتغيير نظام حياتى تمامًا للبقاء تحت أقدامه حتى يتماثل للشفاء مهما تطل المدة فلا أطمئن أو أثق لأحد سواى حتى ولو كانت أمى وتلك نقطة ضعفى الوحيدة».. «هوايتى إلى جانب الكتاب الموسيقى التى مارستها على مدى ست سنوات ومازلت شديدة الالتصاق بالبيانو».. «قبل النوم اطمئن على رصيدى من قطع القرشين صاغ لأننى أجمع القطع الفضية الصغيرة لأعطيها لأولادى ــ يس وعمر الذى أصبح أستاذ الكلى قبل الذهاب للمدرسة لشراء المثلجات من الكانتين وأوفر عليهم مشقة البحث عن فكة لصاحب الكانتين، وعمومًا حددت لكل منهما مصروف لا يتعداه فالكبير 40 قرشا فى الأسبوع والصغير أربعة قروش يوميا (ماديات عام 1959)».. «الحفاظ على حب الناس أجمعين أو رضاهم مستحيل».. «طوال حياتى حتى التخرج فى الجامعة لم أخرج وحدى مهما تكن الأسباب، ولم يكن يسمح لى بزيارة صديقة أو زميلة أو التردد على متجر لانتقاء ثوب يعجبنى، وإنما الخروج إلى السوق مرتين فى العام لا أكثر، الأولى فى الشتاء لشراء الملابس الثقيلة، والثانية صيفا لشراء ملابس الصيف القطنية».. «كانت أمى تحمل لنا حبًا كبيرًا ومع ذلك كانت تأخذ فى تربيتنا بأسلوب الشدة والصرامة فهى تنحدر من أصل كردى شركسي، وكنا نلتمس التخفيف من شدتها فى بيت جدى القريب».. «والدى أول طبيب مصرى يجرى عملية فتح بطن بدون بنج، تعلقت به لحد الالتصاق ولأنه كان مشغولا فى مهنته كنت ألازمه أيضا فى عيادته بحجة مساعدته، وكانت عيادته الأصلية فى طنطا والفرعية فى القاهرة، وكان موزعًا وقته هنا وهناك، وفى أواخر أيامه ولثقل المرض عليه كنت أساعده بجدية فى عيادته، وكنت أحقن المرضى وأقوم بعمل التحليلات وتنفيذ كل ما يطلبه منى، ومن هنا تعلقت بمهنتة الطب وأصبحت أمنيتى تنحصر فى البالطو الأبيض والسماعات والمشارط، وعقدت العزم بعد سنوات دراستى فى كلية الأمريكان بغمرة تقديم أوراقى إلى الجامعة لالتحاق بكلية الطب، حيث هناك سنة إعدادية بكلية العلوم مشتركة ما بين الطب والعلوم، لكن عميد العلوم الانجليزى غيّر مستقبلى برفضه قبولى، وكان الانجليز يمقتون الأمريكان ويحاربون التعليم الأمريكى فى مصر، ومن هنا جاء إصراره رغم جميع الوساطات، فعرضت عليه أن يعقد لى امتحان قبول إذا لم أحصل فيه على 90٪ فله رفضى لكنه أبى، فعرضت مقابل إلحاقى بالكلية الحصول كل عام على 90٪ وإلا يفصلنى حتى ولو كنت فى السنة النهائية لكنه رفض أيضاً، وحاول بعض المسئولين فى الجامعة بعدما لمسوا شدة رغبتى واستعدادى بالتدخل والرجاء لكنه هدد بالاستقالة، وانتهت جميع المحاولات ولم يكن أمامى إلا اللجوء إلى منزل طه حسين الذى قال لي: «سنقبلك فى كلية الآداب وفى قسم اللغة العربية وستجدين بغيتك فى التشريح فى شعر جرير والفرزدق»... «لم تستطع أمى الضغط علىّ للزواج بعد عودتى حاملة الدكتوراه من باريس، فقد كانت إلى جانب صرامتها متحررة تركب الخيل وتتحدث بعدة لغات وتزوجت أمى بمحض رغبتها، وأذكر أن أبى دفع مهرًا لها جنيهًا واحدًا رمزيًا بناء على رغبة جدى المستنير، ومن هنا صارحت أمى بأننى التقيت بأحدهم فى البعثة وأتمنى لو يقبلنى زوجة له إذا ما تقدم لى، وإلا فلن أتزوج أبدًا، ولم يكن يحيى يعلم شيئا من كل هذا، ومرت الأيام وعندما تقدم قبلته لأننى عندما عرفته شعرت بأننى قرأته وحفظته من يوم أن ولدت، وكما تزوجت أمى تزوجنا لتبدأ بنا الحياة معًا فى عام 1940».. «العلاقة بين الزوجين لا يمكن بحكم طبيعة الأشياء أن تظل كما كانت فى أول عهدهما بها.. الحياة تسير وكـلاهما ينشغل والصلات الجديدة بينهما لابد وأن نصقلها بالفرح بها فهى دليل على سير الزمن، ومن لا يسعده مرور الزمن يشقى نفسه بما لا فائدة فى علاجه، وكما استقبلنا الربيع بفرح علينا أن نستقبل الصيف أيضا بفرح، والخريف فصل له متعته أيضا ومزاياه، وفى سن الأربعين وما بعدها يعترى الجانبان تغيرات جسدية وروحية يفسرها البعض ببشائر الضعف القادم لكنها علامات حياة جديدة من نوع آخر، إنها مثل اضطرابات المراهقة ليست مرضًا، وإنما إيذان بحيوية من نوع جديد أو اكتمال نماء، وكثيرًا ما تلجأ المرأة أو الرجل فى مثل هذه السن إلى تأكيد الشباب والتشبث به فيرتكب أى منهما ألوانًا من الحماقات كحماقات المراهقين، والواقع أن الحياة بعد الخمسين هى متعة الحياة كلها، فالمرء قد تخلص كثيرًا من سخافات الحياة، وتعرَّف على حقيقة طاقاته فلا يكلف نفسه ما لا تستطيع، وفى مثل هذه السن يكون قد أنهى الجزء الأهم من حيث اختيار نوع العمل والمضى فيه، وإنجاب العدد المطلوب من الأبناء، فهو إذن قد رتب المستقبل بشكل ما فى خطوطه العريضة، وما عليه سوى أن يهدأ ليستمتع بهذا الذى بناه، وبعدما خفّت مسئوليات الأولاد نوعًا فلابد وأن يتبع ذلك الالتفات إلى الذات وتغذيتها بكل ما هو روحى وعقلى جميل، وليس معنى هذا أن يعود الزوجان إلى صورة الحياة عندما تلاقيا للمرة الأولى وقد خلص كل منهما لصاحبه، وإنما لأنهما فى هذه السن يخلص كل منهما فيها لنفسه ليسير جنبًا إلى جنب مع صاحبه.. كـلاهما لا ينظر إلى وجه صاحبه وإنما ينظر إلى الأمام، وربما إلى نقطة واحدة وهدف واحد ويضعان يدًا فى يد ليسيرا نحو الغد لا نحو زميل آخر».. «علينا ألا نبعثر أنفسنا على كل ما نؤمن بأنه مفيد وقيّم وواجب، فإننا لا يمكن أن ننتج إذا ما تجاوزنا بالآمال حدود الطاقة البشرية التى حددها لنا الخالق، ولو أردت أن أرفع البؤس عن كاهل البائسين جميعًا لما فعلت شيئًا، ولكن لو كرست جهدى لدفع البؤس عن الأقربين لأفلحت فى مهمتى».

وتصبح الدكتورة سهير القلماوى عضوًا فى مجلسى الأمة 1958، والشعب من عام 1979 حتى 1984 وعندما تلقى المعارضة من بعض تلامذتها يكون دفاعها أنها لا تؤمن بالعلم من أجل العلم وإنما من أجل البناء والنهوض بالأمة، وتقترب القلماوى من دائرة حكم الرئيس السادات وشخصه وسياسته ومقتله على يد الإخوان الذى تنعيه فيه بقولها الحزين: «إنها كلمة خرساء بكماء تترنح على شفتى أحاول أن أخرجها بصوتى.. إننا أمام لغز محير، أمام موت من علمنا كيف نقلب الأحزان أفراحًا، كيف نقلب يوم الهزيمة يوم افتتاح القناة فلا نحزن وإنما نفرح. كيف نستطيع الآن أن نقلب يوم النصر؟! لقد كان يومًا فرحًا ثم أصبح يومًا يمتزج به الحزن أيما امتزاج، كيف نحيا الآن فرحنا يا من حرصت على ألا يدخل اليأس إلى قلوبنا.. كيف نستطيع أن ننسى أنك فى هذه القاعة قلت: أنا مستعد أن أذهب إلى أبعد نقطة فى العالم لكى أجنب أبنائى أن تراق لهم نقطة دم، أيمكن أن يكون بيننا هؤلاء الذين اغتالوك بالخيانة والغدر والخِسة وكل معانى الدناءة.. إنهم ليسوا من مصر، ليسوا من الإسلام والمسلمين، إنهم الجماعة التى تلتصق التصاقًا مدروسًا مدسوسًا بنا، فلنتخص منهم، إن سمومهم هى التى سرت فى حياتنا وبدأت تعكر عليك كل ما كنت تبنى وكل ما كنت تعمل. وأنت الذى أعدت علم مصر نقيا وعاد نشيد مصر الأصلى، فلتنم روحك راضية هادئة فى قلوبنا النابضة عندما توسد فى تراب مصر، التراب الذى أعليت شأنه، التراب الذى يحتضنك بعدما استطعت أن تنصت إليه وأن تتعلم منه قيم القرية وقيم الأرض الطيبة.. إنها الخيانة النكراء فى يوم النصر لجماعة أعضاؤها ليسوا بمسلمين»..

ورحت أزور حينا وأشوف بيتنا القديم وبيتك الجميل يا دكتورة سهير. لقيت شارعنا ماكانشى هنا ومشى، والعباسية الشرقية سكن الفيلات والسرايات وعائلات الكازارونى والمهيلمى والقلماوى والخرزاتى والغمراوى وأباظة وكرارة وفرحات أصبحت لا شرقية ولا غربية ولا هى هى، والشارع العريض يا أستاذتى وأستاذة الدكاترة جابر عصفور وصلاح عبدالصبور ويوسف القعيد ومجيد طوبيا وتليمة أصبح زقاق، والميدان البعيد بعد أكثر وتلاشى وراح واندثر فى هوجة العشوائيات، وسور جنينة المدرسة الراقية بقى يا حبة عينى موقف أوتوبيسات، والجيرة يادكتورة كلها رحلت، والسيرة يا معلمتى أكلها الصدأ، والعيال شاخت، وبقالة الصفا تحولت لورشة سيارات، والمستشفى الفرنساوى راح للحميات، ومصنع الطرابيش قفل، ومنطقة احتفالاتنا بمحمل الكعبة قسموها قرافات، وليلة امبارح قريت فى نعى الشهيد اسم المرحوم والده الشهيد عريس إمبارح بالبدلة الميرى جارنا وكان ساكن قصادنا وأحد أبطال الفالوجا.. والخشاب مات ومصطفى فرحات مات وطلعت عبدالرحيم مات ومات المذيع عبدالرحمن على الساكن فى العمارة الصفراء بالميدان، وماتت طنت نعمات عمة إحسان عبدالقدوس ساكنة أول دور التى تربى فى أحضانها ليكتب من وحيها رائعته «أنا حرة».. ويا عينى على اليوبيل الذهبى فى السنة الجاية قسموه نصفين نص هو ونص هي.. و..رجعت أقول لنفسى ماتزعليش روحك يا بت المهم صحتك، لقيتها راحت هى الأخرى مع كل من راح وبقى ذكرى كان لابد من نكشها على الورق قبل ما ينخلع كتفى من جراء الجهد المبذول فى صد باب الزهايمر!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف