تقول بيرل باك: لكي تكون كاتباً. فعليك أن تكد. بمعني أن تنهض في الصباح. وتبدأ في الكتابة مبكراً. والذهن صاف ورائق. فضلاً عن أن تبدأ الكتابة حتي لو لم يكن الذهن رائقاً وصافياً. عادات العمل ضرورية للكاتب مثلما هي ضرورية للعامل. وربما أكثر. لأنه ليس ثمة من يجبر الكاتب علي العمل. وليس هناك من يساعده في أداء عمله. أنه رئيس نفسه. وهذا الرئيس هو عامل في الوقت نفسه.
وتقديري أنه علي الفنان ألا يرجيء عمل اليوم إلي الغد. بحجة أنه مشغول. فالوقت لن يكون في حوزته ـ ذات يوم ـ بصورة مطلقة. وعلي الرغم من حرصي علي عادة الكتابة اليومية. فإني أتذكر ـ دوماً ـ قول روبرت هنري "إن كل شخص يحترم الرسم يشعر بالخوف كلما بدأ لوحة". وأثق أن هذا الشعور يحياه كل مبدع بصرف النظر عن طبيعة إبداعه. ولعلي أتذكر قول أوراثيو كيروجا: "لا تكتب وأنت تحت تأثير الانفعال. اتركه يزول استدعه مرة أخري".
علي الفنان ـ إذا اعتبر الابداع قضية حياة ـ أن يحاول الإفادة من كل ما يسمح به الوقت. حتي لو كان مجرد دقائق قليلة. أنا أطمئن إلي ما كتبته في تلك الأوقات العابرة ـ إن جاز التعبير ـ أوقات ما بين عملين. أوقات الانشغال في عمل لا يتصل بالإبداع. وأوقات الفراغ والضيق واللاجدوي أجري بالقلم علي الأوراق لمجرد الاقتراب من الفن. وربما وضعت نقطة الختام لعمل كنت قد أهملت إلحاحه منذ فترة طويلة.
كانت روايتي مد الموج إبداع ما بين أوقات العمل الإداري نائباً لرئيس اتحاد الكتاب لمدة عامين. وكانت قصتي القصيرة نبوءة عراف مجنون محصلة ضيق نفسي في أيام الغربة. حاولت رفضه في استقالة. فعبرت عنه في قصة قصيرة. وكانت قصة أحاديث النفس المتداعية امتداد يوم صحفي كامل. بدأ في السابعة صباحاً. إلي الثانية من صباح اليوم التالي. انصرف الجميع. وخلوت إلي نفسي. أغراني الورق البيض بأن أخط عليه كلمات. كتبت جملة وشطبتها. كتبت جملة ثانية. استدعيت بقية الجمل. حتي فرغت من كتابة القصة في الصباح نفسه.
حاولت ـ منذ تعرفت إلي الكتابة الأدبية ـ أن أكتسب عادة الكتابة اليومية. بصرف النظر عن كل شيء. حتي الأيام التي كان الإجهاد يلفني فيها تماماً. بعد تواصل عمل شاق. كنت أحرض أن أكتب. ولو بضعة أسطر. أتذكر قول جوجول: "لابد للكاتب أن يسيطر علي قلمه. كما يسيطر الرسام علي فرشاته. يجب أن يكتب شيئاً كل يوم. فاليد ينبغي أن تألف الطاعة العمياء للأفكار. وكان استندال يرغم نفسه علي العلم كل يوم. وحاول كانتزاكس ـ لما اشتد عليه المرض ـ أن يملي إبداعاته. لكنه أخفق: مستحيل!.. لا أجيد الإملاء!. عندما أمسك بالقلم فقط تأتيني الأفكار. والواقع أن الإملاء ـ بالنسبة للكاتب الذي تعود الكتابة ـ مسألة مستحيلة. ذلك الاتصال العجيب بين الأفكار في الذهن. والقلم الذي يجري علي الورق. عملية الكتابة باليد ـ بالنسبة لي ـ مهمة للغاية. قد أملي موضوعاً صحفياً. لكن العمل الإبداعي لابد أن ينطلق من الذهن إلي الورق. عبر الوجه. والرقبة. والكتف. والذراع. والأصابع. وكان الشعور الأقوي عند منجواي أن أصابعه تقوم بالجزء الأكبر من تفكيره
اعترف أنني حاولت أن تكون لي عاداتي المصاحبة للكتابة. مثل شرب القهوة والسجائر. وسماع الموسيقي. والتحكم في مساحات الضوء. فلم أوفق. تكفيني المعادلة السهلة: فكرة + مكان للكتابة + أوراق + قلم. لا يشغلني ـ بعد ذلك ـ أي شيء. حتي الشاي تعرفت إليه متأخراً.. كنت قد حاولت ـ قبلاً ـ أن تكون لي ـ مثل بقية الناس ـ هوايات أمارسها. لكن الفشل كان هو الجدار الذي اصطدمت به كل محاولاتي. وافق جون برين علي أن إرادة الكتابة تخلق لك جو العزلة الذي تريده. ليس بوسعك الانتظار حتي تتوافر لك الظروف المناسبة للكتابة: الجو الهاديء. والضوء المناسب. والموسيقي الخافتة التي تساعد علي الكتابة. والتخفف ـ ما أمكن ـ من الهموم الحياتية الخاصة. لن أنسي قعدة بيرم التونسي في قهوة شعبية بشارع السد. منشغلاً بإبداعاته عن الزحام الصاخب حوله. كأنه يحيا في جزيرة منفصلة عن الأمواج المتلاطمة من النداءات والدعوات والابتهالات والشتائم والصرخات. الكاتب يجب أن يعمل في كل الأجواء. بصرف النظر إن كانت حسنة أم رديئة.
الإخلاص للفن قد يدفع الفنان إلي التضحية بنفسه ـ القول لبوريس بوريسوف ـ والابتعاد عن أي شيء يعرقل عملية الإبداع لديه. بل إن الظروف قد تضطره لأن يتجاهل مصالح المقربين له. والتصرف معهم بقسوة.
الفن يحتاج إلي ضحايا. هذه مقولة شهيرة. لكنها لا تتجه إلي الفنان وحده. وإنما تشمل القريبين منه أيضاً.