المصريون
جمال سلطان
بين العاصمة القديمة والعاصمة الجديدة
حسب المعلن حتى الآن أن العام المقبل 2019 سيشهد بدء نقل الوزارات ومقر الحكومة والبرلمان وغير ذلك من المواقع الرسمية من القاهرة إلى العاصمة الإدارية الجديدة ، وإذا صح ذلك ، وصدق المسئولون هذه المرة ، فإن هذه ستمثل فرصة تاريخية لكي تستعيد القاهرة وهجها وجاذبيتها السياحية والثقافية والإنسانية ، وخاصة القاهرة القديمة ووسط المدينة ، وبالنظر إلى أن ما يفصل بيننا وبين العام المقبل هو أشهر ، فإني أعتقد أنه من المهم الآن أن نبكر بتقديم رؤى مستقبلية لكيفية الاستفادة من المقار الحكومية التي سيتم إخلاؤها ، بدلا من أن يتحول "احتلالها" إلى كابوس جديد نترحم فيه على الوضع القديم ، ونتمنى لو بقيت الوزارات مكانها بكل سوءها وتعطيلها للخلق وتشويهها للعاصمة التاريخية ، لأن تكاسل النخبة والمبدعين والمهمومين بمستقبل مدينتهم سيتيح الفرصة لانتهازية رأس المال أو الفساد الإداري أو العقم الوظيفي أن يضيع على الوطن تلك الفرصة .
في وسط القاهرة المختنق ، عدة وزارات ، بعضها وزارات يمكن تسميتها بالشعبية ، نظرا لأن طبيعة عملها أن يقصدها عشرات الآلاف من البشر يوميا ، سواء موظفين أو اصحاب مصالح يحتاجون إلى قضائها ، وهذه الوزارات تمثل أحد أهم أسباب اختناق وتشوه وسط القاهرة ، ومنها وزارة التربية والتعليم ، ووزارة الإسكان ، ووزارة العدل ، والمقر السابق لوزارة الداخلية في لاظوغلي ، ووزارة الأوقاف ، إضافة إلى مجمع التحرير ، إضافة إلى مبنى البرلمان وملحقاته ، وإذا أمكن للدولة أن تفرغ وسط المدينة من هذه "السوءات" جميعها فإن هيئة المدينة ستختلف تماما ، وحركة المرور والسير وبشكل خاص الحركة السياحية ستختلف ، شريطة أن يتم النظر جديا في البدائل ، والطريقة الأمثل لشغل هذه المواقع بدون إعادة انتاج سوءاتها ومشكلاتها على الحركة في العاصمة .
لا أملك تصورا شاملا لذلك ، وأعتقد أنه سيكون مهما أن يتقدم خبراء وطنيون مخلصون مثل الدكتور مهندس ممدوح حمزة بأفكارهم وتصوراتهم ، حيث يملكون الخبرة كما يملكون الرؤية المقارنة مع تجارب دولية سابقة كما يملكون ـ وهو الأهم ـ العشق الحقيقي للمدينة ، ولكني هنا أحاول أن أقدم مقترحا جزئيا فيما يتعلق بوزارة الأوقاف ، حيث يمثل مبناها طرازا معماريا رائعا ، ويدمج روح مصر العربية والإسلامية مستلهما خبرات فنية عريقة عرفتها العواصم العربية الكبرى عبر دورات تاريخية طويلة ، وهو مبنى عريق يمثل أثرا بالتحديد القانوني ، لأنه أنشئ عام 1898 ، أي قبل أكثر من مائة وعشرين عاما ، وهي الفترة التي شهدت الأناقة المعمارية التي تباهي بها القاهرة حتى الآن وتضاهي عواصم أوربية عريقة ، وهو مبنى على الطراز المملوكي ، وهذه الخصوصية المعمارية تمثل جذبا سياحيا بالأساس ، كما تمثل إثراء لفنون العمارة في وسط المدينة ، واقتراحي المحدد هو أن يتحول هذا المبنى العريق إلى مكتبة وطنية عامة ، تفتح للعلماء والطلاب والمثففين والأكاديميين وضيوف مصر المهتمين بالمعرفة ، لأن تقسيمها الداخلي يسمح بذلك ويتناسب مع ذلك ، على أن يوكل إلى مكاتب هندسية متخصصة إضافة اللمسات الفنية والمعمارية داخليا بما يخدم هذا التحول ، مع بقاء البصمة الخاصة بالمبنى داخليا وخارجيا ، وتنظيفها من السخافات التي تمت إضافتها مثل الأسوار الحديدية الكئيبة وما جرى على أسطحها ونحو ذلك .
المكتبات لم تعد مجرد دورا للقراءة أو للمثقفين فقط ، وإنما عامل جذب سياحي ، وهناك ملايين من العرب والمسلمين من أرجاء العالم يقصدون القاهرة للاطلاع على الإصدارات الجديدة أو المخطوطات أو نحو ذلك ، وعندما توفر لهم الدولة في وسط العاصمة ، مبنى بهذه الروعة والمستوى الفني ، سيكون عامل جذب سياحي وثقافي دولي كبير ، كما أتصور ، بل أوقن ، أنه سيكون أحد أهم معالم القاهرة الثقافية والسياحية في العقود المقبلة .
هذه مجرد فكرة عارضة ، وأتمنى أن يكون هناك تفكير واسع من قبل النخبة والمثقفين والنقابات المعنية ، مثل نقابة المهندسين ونقابة الصحفيين ، وكل مهتم بالشأن العام ، للاستفادة من المواقع الحكومية الأخرى التي سيتم إخلاؤها ، لا يصح أن نترك مثل هذه الفرصة التاريخية لشهوات رأس المال الذي لا يعنيه سوى جمع المزيد من المال ، ولا لموظفين أو إداريين عقيمي الرؤية وأعداء للإبداع والثقافة بالفطرة ، أن يقرروا مصير تلك المباني .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف